قد يتعدى الأمر المجازفة بحياة. ففي البدء، يخال المرء أنه يمارس روتين نهاية كل أسبوع. وكما جرت العادة "نهاية الأسبوع" إلى جانب الأهل والأقارب في البقاع، وتحديداً في بلدة النبي شيت. وبفعل ما شهده لبنان خلال نهار 23 أيلول 2024، كان القرار أن أعود لألتحق بالعائلة وليس لنهاية أسبوع بل تحسّباً من نهاية أوشكنا أن نشهدها أو أن نكون إحدى قصصها أو أحد عناوينها عن قصد أو غير قصد.
وبدأت الرحلة عصر ذاك اليوم، وأولى الغارات الإسرائيلية استقبلتنا بعد حاجز الدرك في أعالي بوابة المتن (مجدل ترشيش) على ارتفاع يقارب الـ1450 متراً عن سطح البحر، حيث كنا نسلك ذاك الطريق الأقرب إلى قلوب البقاعيين أمثالنا عندما يكون الوقت سانحاً أو عندما يزدحم طريق ضهر البيدر.
تلك الغارة الإسرائيلية، على قوة صوتها وعصفها في الجرود، كانت مفصلية في هذه الرحلة، خصوصاً بالنسبة لشقيقتي الصغرى التي كانت ترافقني، إذ أصيبت بنوبة بكاء وتوتر، حاولت التخفيف عنها ببعض المزاح المرفق بالحديث عن حماقة عدونا باستهداف المرتفعات ظناً منه أن ذلك يخفف من قدرة المقاومة على استهداف عمق الأراضي المحتلة وإيلامه.
المشهد كان مختلفاً بعدما أكملنا طريقنا نزولاً. من جوار سيدة زحلة الشاهدة على رقع من فسيفساء سهل البقاع، حيث بدأت تتصاعد أعمدة الدخان واللهب الكثيف. الصورة كانت شبيهة بما يصور في أفلام الحروب، وكلما اقتربنا نزولاً ازدادت حدّة الغارات وارتفع صوتها أكثر فأكثر. هكذا إلى أن وصلنا إلى أحد "مفارق" البلدة حيث كانت الغارة اقرب بكثير على هدف على كتف طريقنا الأيمن، وميض تبعه عصف وصوت ووهج كبير، شعرنا فيه ونحن داخل السيارة، فقررنا الالتفاف سريعاً وسلوك مفترق ثانٍ، فكان نصيبنا من الغارة أن تستهدف أعالي البلدة، وتحديداً مبنى سكنياً مجاوراً لمنزل أخي. أصابتنا الصدمة فمنزل أخي الذي كنا نترصّده عند وصولنا إلى أول السهل، هو الذي اختاره الأهل مجتمعين الأب والأم والأخت والأخ وزوجة الاخ وابن الأخ ذي الـ9 أشهر، ملجأً في ذلك اليوم، كونه بعيداً بعض الشيء عن التجمعات السكنية.
هو شريط الحياة يمرّ أمام عينيك، وهنا أنت الشاهد والعاجز عن درء العدوان، هي أصعب لحظات الحياة على الإطلاق، ولا تسعفك الكلمات بوصف الشعور أو هول ما يجري. سحابة غبار كثيف تحجب الرؤى عن القلب لمشاهدة الأهل، ويتسمر الوقت بثوانيه ودقائقه الطوال كأنّها سنوات عجاف، لا أحد يجيبك منهم على اتصال، فتقرّر مرغماً سلوك طريق آخر بعد أن انقطعت السبل المعتادة لبلوغ القرية، والشقيقة الصغرى التي كانت قبل ثوان معدودات تثنيك عن إكمال الطريق تحثك بصراخها للإسراع نحو المنزل، علّنا نلقى المكروه نفسه إن اصابهم لا سمح الله، لأنّ الاطمئنان بات غاية المنتهى، فيقصف العدو هدفاً آخر، فتجبر من جديد على أن تعود أدراجك لكن إلى أين؟ غارة مفاجئة أمام عينيك وقريبة جداً، تشعر بالحجارة تتطاير لتصيب سقف السيارة، ومن ثم رنين هاتف، والمتصل الوالدة تدعونا للعودة الى مكان آمن وعدم إكمال الطريق. هم بخير رغم حجم الضرر الذي لحق بالمنزل والسيارات "نحن بخير سلمنا الله، ارجعوا إلى حيث تأمنون".
في ظلّ ما يحدث، كلّ ما يجول في البال أنّ عدونا مشتبه في أهدافه حتّى المعنوية منها، فالتقديرات الخطأ تؤدي إلى نتيجة مغايرة لا تشبه أيّ نتيجة أخرى، قد يظنّ الإسرائيلي أنّ هذه الشراسة في العدوانية تثني المدنيين وتضعفهم وتجعلهم يفكّرون بطريقة أخرى. إلّا أنّ الواقع يختلف كثيراً، كلّ ما يحصل لا يزيدنا إلّا تمسكاً وصلابة. قد لا يدرك البعض البعيد هذه الخورازمية التي تزيد الناس تمسّكاً بحقّهم بالمقاومة رغم القصف والتدمير والتهجير والدمار، إلّا أنّها حقيقة ماثلة اليوم وغداً وبعد غد، نحن أكثر تمسكاً والتفافاً حول خيار التصدي لأطماع العدو وكل عدو بأرضنا وسمائنا ومياهنا وبحقّنا في الوجود.
ولأنّ هذا العدو لا يفهم إلّا بلغة القوة، فبعد الردّ الذي قامت به المقاومة خلال الساعات الفائتة، ها هو الإعلام العبري يجهد لإخراج نهاية على قياس هزيمة نكراء لأنّ كلّ أهداف العدو لم تثنِ المقاومة عن إحراق الشمال الإسرائيلي وبالقدر الذي تستحقه المعركة حتى الساعة، وبات الكيان الغاصب يفضّل الحلول الديبلوماسية على تلك العسكرية مرغماً وليس من كرم اخلاقيّ ينتهجه.