تعيد محاولة الاغتيال الثانية للمرشح الجمهوري للرئاسة الأميركية دونالد ترامب، تشكيل المشهد الانتخابي في الولايات المتحدة قبل أقلّ من شهرين على موعد الاقتراع في 5 تشرين الثاني، وتسلّط الضوء في الوقت نفسه على أنّ العنف السياسي يسلك منحىً تصاعدياً في بلد تتعمّق فيه الانقسامات السياسية والثقافية.

لم يتأخّر ترامب في تحميل ما وصفه بالخطاب التحريضي للرئيس جو بايدن ونائبته كَمَلا هاريس المرشّحة الديموقراطية للانتخابات الرئاسية، تبعة محاولة الاغتيال الثانية التي نفّذها رايان روث البالغ 58 عاماً ببندقية "أي كيه-47" (كلاشينكوف) على مسافة مئات الأمتار من ملعب ترامب الدولي للغولف في ويست بالم بيتش بولاية فلوريدا. وتمكّنت سلطات الولاية من اعتقال روث.

في محاولة الاغتيال الأولى التي نفذها توماس ماثيو كروكس (20 عاماً) خلال تجمّع انتخابي حاشد في بتلر بولاية بنسلفانيا في 13 تموز، أصيب ترامب بجرح في طرف أذنه اليمنى، وقتل رجال الخدمة السرية الذين كانوا يتولون حراسة المكان، مطلق النار.

خرقان حدثا لأمن ترامب على رغم تشديد الحراسة عليه بعد المحاولة الأولى، التي كان وقتذاك بايدن لا يزال مرشّحاً للانتخابات، قبل أن يتخلّى عن السباق إلى البيت الأبيض لمصلحة هاريس في 21 تموز، تحت ضغط هائل من كوادر الحزب الديموقراطي بسبب أدائه السيىء في المناظرة مع ترامب في 27 حزيران، إذ أظهرت بوضوح معاناته من تراجع في قدراته الجسدية والذهنية.

ارتفعت شعبية ترامب قليلاً بعد المحاولة الأولى، وتهافت المؤيدون للحزب الجمهوري على التبرّع لحملته. وعندما ترشّحت هاريس رسمياً، أحدثت زخماً في الحملة الديموقراطية التي انتعشت مجدداً، وأظهرت استطلاعات الرأي تقدّمها على المستوى الوطني 4 نقاط مئوية، في ظلّ تنافس شديد في الولايات المتأرجحة.

وفي 10 أيلول، استضافت شبكة "أي بي سي" الأميركية للتلفزيون في فيلادليفا المناظرة الأولى بين هاريس وترامب. واستقرّت الآراء على أنّ أداء نائبة الرئيس كان أفضل من أداء الرئيس السابق، وهذا ما اعترف به إستراتيجيون في الحزب الجمهوري، بينما حقّقت هاريس اندفاعة قوية جعلت المغنية تايلور سويفت تعلن في تغريدة على تطبيق انستغرام تأييدها لها. يتابع 284 مليون شخص سويفت على التطبيق، وحصلت تغريدتها على 8 ملايين إعجاب.

بعد أيام على المناظرة، أتت محاولة الاغتيال الثانية من رجل قال إنّه يخشى على أوكرانيا في حال فوز ترامب بالرئاسة، فقرّر التدخل. لكن سلطات إنفاذ القانون لم تتوصّل بعد إلى معرفة هل روث قد أطلق الرصاص فعلاً على ترامب الذي كان برفقة صديقه والمتبرع الجمهوري الكبير للعقارات ستيف ويتكون، بين الحفرتين الخامسة والسادسة من الملعب المكوّن من 18 حفرة.

وعلى عكس الانتقادات التي وُجّهت إلى جهاز الخدمة السرية بعد محاولة الاغتيال الأولى، وهذا ما أدّى إلى استقالة رئيسة الجهاز كيمبرلي تشيتل، فإنّ أداء العناصر الذين كانوا يتولون أمن ترامب حظي بالإشادة، وسرعان ما عمد الرئيس السابق إلى استغلال الحادث عبر توجيه نداء للتبرع لحملته ومن ثم إلقاء المسؤولية على بايدن وهاريس.

هل يستفيد ترامب من الحادث لرفع شعبيته بما يحدث تحوّلاً يزيد من فرص عودته إلى البيت الأبيض؟ هذا سؤال يبقى موضع شك.

تبدو الصورة مختلفة إلى حدّ كبير عن تلك الصورة التي ظهر فيها ملطّخاً بالدماء في بتلر رافعاً قبضته تحت علم أميركي داعياً إلى "القتال"، وهذا ما جعله في نظر كثيرين من مؤيّديه شهيداً حياً. وزادت شعبيته بعض الشيء.

وهذه حال رؤساء سابقين تعرّضوا لمحاولات اغتيال، لكن ارتفاع التأييد لم يدم طويلاً. حصل هذا مع رونالد ريغان الذي زادت شعبيته نحو ثماني نقاط عقب تعرّضه لمحاولة اغتيال بعد شهر واحد من توليه الرئاسة عام 1981. دام ذلك مدّة شهرين، وأنهى العام بتدنّي شعبيته نحو عشر نقاط مما كانت عليه عند تنصيبه.

كذلك، شهد جيرالد فورد ارتفاعاً ضئيلاً في شعبيته عقب تعرّضه لمحاولة اغتيال عام 1975، ثم ما لبث أن تدنّى التأييد له إلى ما كان عليه قبل محاولة الاغتيال، وفشل في الفوز في الانتخابات التي أجريت بعد عام.

لكن ما الذي يؤدي إلى تأجيج المشاعر، وإلى هذا العنف السياسي في الولايات المتحدة؟

هناك قبل كل شيء، الخطاب السياسي لكلا الفريقين. كلّ فريق يتّهم الآخر بأنّ فوزه بالرئاسة سيعني انهيار أميركا. وتسود لغة تخوين ومبالغة، ونبرة تفوح منها العنصرية والتعصب العرقي والتعالي والابتذال والكراهية. وهذا ترامب يتهم في المناظرة المهاجرين الهايتيين بأكل القطط للمواطنين الأميركيين في سبريغفيلد بولاية أوهايو. وبعد تأييد تايلور سويفت لهاريس، غرد الرئيس السابق على منصته للتواصل الاجتماعي "سوشيال تروث" قائلاً "إنني أكره تايلور سويفت". ويعتبر ترامب أم الدعاوى القانونية التي يواجهها، سببها سياسي ويقف خلفها الديموقراطيون من أجل حرمانه من العودة إلى البيت الأبيض، ولا يني يكرر أنه الوحيد القادر "على انقاذ أميركا، بينما الديموقراطيون سيدمرونها". وقال عن هاريس إنها ماركسية وإن والدها ماركسي.
والمرشح لمنصب نائب الرئيس على لائحة ترامب جيه. دي. فانس يصف هاريس بأنها "سيدة القطط التي لا تنجب" في محاولة للنيل من شخصها والحط من قدرها.
ويرفض ترامب منذ الآن، التسليم بأنه سيعترف بنتائج الانتخابات في حال عدم فوزه، بما يهدد باعادة سيناريو انتخابات 2020 التي لا يزال الرئيس السابق يقول إنها "سرقت" منه، من دون أن يقدم دليلاً على ذلك. والغالبية الساحقة من الجمهوريين تؤيد هذا الزعم.
وفي المقابل، يكرر بايدن أن فوز ترامب يعني انتهاء الديموقرطية في الولايات المتحدة.
وعندما وصل بايدن إلى البيت الأبيض في 2021، وعد بخطاب أميركي يوحد الأميركيين، لكنه أخفق في ذلك. وهناك ديموقراطيون أسفوا لفشل محاولة الاغتيال الأولى لترامب.
وتتساءل صحيفة "الغارديان" البريطانية "ما الذي يحدث في بلد له تاريخ مؤلم من الاغتيالات الناجحة مثل تاريخ أميركا عندما ترى رئيساً سابقاً يُستهدف ليس مرة واحدة بل مرتين خلال هذا الوقت القصير؟".
ويلخص أحد الناطقين باسم الخدمة السرية بأن "مستوى التهديد مرتفع... نحن نعيش في أوقات خطيرة".
هذه الأوقات التي تشبه زمن الستينات "عندما اغتيل مارتن لوثر كينغ وروبرت كينيدي بفرق أشهر، وسط عنف أوسع كانت تعيشه أميركا وتآكل الروابط المجتمعية، وهو أمر يقلق قادة كثيرين اليوم" على حد وصف صحيفة "النيويورك تايمز".
وهذا ما تذكّر به تداعيات انتخابات 2020 واقتحام مناصري ترامب مبنى الكونغرس وقد وصفهم بـ"الوطنيين"، وتعهد العفو عن المدانين منهم، فور عودته إلى البيت الأبيض.