الدِين إطار إيماني معيوش للتفاعل عمودياً مع الخالق وأفقياً مع الإنسان الآخر، لكن متى تحوّل أداة لترويض هذا الآخر ومنع قدسية حقّه في حرية التفكير والتعبير يفقد وظيفته. فلطالما حضرت بعض المفاهيم الدينية في عدد من المشاريع السياسية عبر التاريخ، إنّما حين يسخَّر الله خدمة لمشاريع سياسية فلا سبيل للحوار حولها وتتحوّل حرية التعبير والتفكير حينذاك إلى خطيئة أصلية تستحقّ إهدار الدم.
"هوية الأمّة الإسلامية قضية جوهرية تتجاوز القومية والحدود الجغرافية لا تغيّر من حقيقتها (...) من أهمّ الواجبات نصرة أهل غزة وفلسطين المظلومين ومن يخالف الواجب سيتعرض للمساءلة الالهية"، هكذا أفتى المرشد الأعلى للثورة الإسلامية في إيران الإمام علي الخامنئي عند استقباله في 16/9/2024 جمعاً من كبار علماء ووجهاء أهل السّنة في إيران لمناسبة ذكرى المولد النبوي الشريف وأسبوع الوحدة الإسلامية.
هذا الموقف ليس جديداً على الجمهورية الاسلامية الايرانية، وهو يرافقها منذ نشأتها مع الإمام روح الله الخميني عام 1979، وليس مستغرباً من خليفته الإمام الخامنئي الذي أعلن في 21/7/2010: "أنا نائب المهدي المنتظر وطاعتي واجبة على الجميع". فباِسم السلطة الدينية، يسبغ على مواقفه - وإن اختلفت إلى حدّ التناقض أحياناً - المشروعية. فالخامنئي الذي رفع من مستوى الصراع القائم، اليوم، عقب عملية "طوفان الأقصى" إلى مصاف المعركة بين الجبهة الحسينية والجبهة اليزيدية معتبراً في موقف له في 25/8/2024: "أنّها معركة مستمرة (...) الجبهة الحسينية تقاوم اليوم الجبهة اليزيديّة، أي جبهة الظلم والجور"، مستحضراً بشكل أو بآخر صراعاً تاريخياً بين الشيعة والسنّة حدث قبل 1400 سنة، ثم أعلن في 2024/9/9 أن "لا ضير في التراجع التكتيكي أمام العدو والتراجع قد يكون في الميدانين العسكري والسياسي". هذا التراجع هو عملياً مرادف لـ"الصبر الإستراتيجي" من دون أدوات تجميل لإخفاء العيوب والعجز.
حين يسخَّر الله خدمة لمشاريع سياسية فلا سبيل للحوار حولها وتتحوّل حرية التعبير والتفكير حينذاك إلى خطيئة أصلية تستحقّ إهدار الدم.
ليس تهديد الخامنئي بـ"المساءلة الآلهية" موقفاً عرضياً ولا من باب الشحن النفسي بل هو موقف متعمّد لوأد الامتعاض المتنامي على محورين:
* داخلياً، لطالما ندّدت شرائح إيرانية بهدر الطاقات والمال العام المتأتّي من جيوبها على دعم تصدير الثورة عبر تمويل أذرعها من الحوثيين إلى "حزب الله"، فيما هي تعيش ضائقة اقتصادية وصعوبات اجتماعية. لنتذكّر كيف راح المتظاهرون الإيرانيون يهتفون على سبيل المثال في 4/1/2018: "لا غزة ولا لبنان روحي فداء لإيران".
* لبنانياً، يتردّد همساً في صفوف بيئة "حزب الله" الملتزمة حزبياً – أي التي تقلّد الخامنئي - أنّ نصرة غزّة لم تحُل دون سحقها وتكبّدهم خسائر بشرية ومادية طائلة فيما إيران "قطعتنا بنص الطريق" وتحاول "النفاذ بريشها".
هل من جدوى من الحوار مع "حزب الله" عن "أيّ لبنان نريد؟" إن لم يَقطع "حبل السرّة" مع "الجمهورية الإسلامية الإيرانية" و"تصدير الثورة"
فثمّة خوف من خروج هذا الامتعاض إلى العلن إن طالت الحرب، أكان إيرانياً عبر احتجاجات في الشارع أم لبنانياً عبر المجاهرة بذلك متى تأكّدوا أنّ زمن "قبل السحسوح وبعد السحسوح" ولّى أو أن رقابهم تحت "المقصلة الحتمية".
أمّا حديث الخامنئي عن أنّ "هوية الأمّة الإسلامية قضية جوهرية تتجاوز القومية والحدود الجغرافية لا تغيّر من حقيقتها"، فتطيح كلّ نظريات "ربط النزاع" و"لبننة حزب الله كما هو" وتعيدنا في مقاربته إلى المربع الأوّل عبر التأكيد أنّه فصيل إيراني عقائدياً بأفراد لبنانيين ومشروعه خارج إطار الدولة اللبنانية إذ لا يمكن فصل "الحزب" عن تعاليم الخامنئي. تصفّحُ موقع العهد الإلكتروني التابع لـ"حزب الله" يكفي لنرى أنّ خطب الخامنئي، لا خطب نصرالله، هي التي تُدرج في خانة "خطب القائد". فلنتذكر بعض المواقف:
* نصرالله في 25/5/2008: "اليوم أعلن، وليس جديداً، أنا أفتخر أن أكون فرداً في حزب ولاية الفقيه".
* نائب الأمين العام لـ"الحزب" الشيخ نعيم قاسم في كتابه "حزب الله المنهج - التجربة - المستقبل" في الفصل السابع، الصفحة 370: "الحزب إسلامي قبل أن يكون مقاوماً".
* نصرالله في 24/4/1987، مجلة “العهد”، العدد 14: "الفقيه هو ولي الأمر زمن الغيبة، وحدود مسؤوليته أكبر وأخطر من كلّ الناس، ويفترض فيه، إضافة الى الفقاهة والعدالة والكفاءة، الحضور في الساحة والتصدّي لكلّ أمورها، حتى يعطي توجيهاته للأمة التي تلتزم بتوجيهاته. نحن ملزمون باتباع الولي الفقيه، ولا يجوز مخالفته. فولاية الفقيه كولاية النبي والإمام المعصوم، وولاية النبي والإمام المعصوم واجبة، ولذلك فإنّ ولاية الفقيه واجبة. والذي يردّ على الولي الفقيه حكمه فإنّه يردّ على الله وعلى أهل البيت... فمن أمر الولي الفقيه بلزوم طاعتهم فطاعتهم واجبة".
في 31/7/2022 خلال إطلالته العاشورائية ورداً على سؤال يكرّره عدد من اللبنانيين لـ"حزب الله"، خصوصاً منذ حرب تموز 2006، وهو: "من كلّفك الدفاع عن لبنان؟"، أجاب نصرالله "حلّ عني، أنا الله مكلّفني".
فإلى متى سنبقى عالقين بين مطرقة "تكليف آلهي" وسندان "مساءلة آلهية"؟!
إلى متى سنبقى محرومين من حقّنا، كمواطنين، في المساءلة البشرية عن مغامرات عسكرية كـ"8 تشرين الأول"؟!
هل من سبيل لفتح كوّة نقاش في جدار آلهي؟!
هل من جدوى من الحوار مع "حزب الله" عن "أيّ لبنان نريد؟" إن لم يَقطع "حبل السرّة" مع "الجمهورية الإسلامية الإيرانية" و"تصدير الثورة"، ومع مشروع قيام أمّة إسلامية تطيح الهوية الوطنية والسيادة الجغرافية؟!