منذ انسحاب الرئيس الأميركي السابق دونالد ترامب من خطة العمل الشاملة المشتركة المعروفة بـ "الاتفاق النووي الإيراني" وإعادة فرض العقوبات على إيران، عادت إيران إلى تطوير برنامجها النووي وزيادة تخصيب اليورانيوم ووضع قيود على تحرك مفتشي الوكالة الدولية للطاقة الذرية. وقيل في تبرير قرار ترامب حينذاك إنه تسلّم تقارير تفيد بأن إيران لم تلتزم الاتفاق يوما. وتستمر إيران في تخصيب اليورانيوم رغم المفاوضات الهادئة التي تجريها مع الولايات المتحدة في عهد الرئيس بايدن.
حتى نهاية 2023 جمعت إيران مخزونا كبيرا من اليورانيوم المخصب بنسبة 60 في المئة، وهو مستوى يقرّبها من درجة التخصيب التي تسمح بإنتاج أسلحة نووية، والتي عادة ما تقارب 90 في المئة.
لا يمكن النظر إلى طموحات إيران النووية بمعزل عن سعيها إلى دور إقليمي وازن. قبل الثورة الإسلامية كان لإيران نفوذ إقليمي عبر سياسة الأحلاف. بعد الثورة الإسلامية سعت إيران إلى توسيع قوتها من خلال شبكة من الجماعات المسلّحة المحلّية التابعة لها مباشرة: "حزب الله" في لبنان ومعظم ميليشيات "الحشد الشعبي" في العراق وامتدادا في سوريا حيث زرعت ميليشيا "فاطميون" الأفعانية و"زينبيون" الباكستانية، وصولا إلى "أنصار الله" الحوثيين في اليمن. وأضافت إلى هذه الجماعات المسلحة الجناح المسلح لحركة "حماس،" رغم الاختلاف العقائدي. والهدف المضمور لهذه الاستراتيجية أعلنه أمين عام حزب الله السيّد حسن نصرالله غداة مقتل قائد فيلق القدس في الحرس الثوري الإيراني قاسم سليماني ونائب قائد الحشد الشعبي في العراق أبو مهدي المهندس (جمال جعفر محمد علي آل إبراهيم) قرب مطار بغداد مطلع 2020 وهو التخلص من الوجود العسكري الأميركي في الشرق الأوسط.
تقاطع الطموحات النووية والأمن الإقليمي
لا تزال الولايات المتحدة ملتزمة بمنع إيران من الحصول على أسلحة نووية، وهي تحاول مجددا بالمفاوضات. وقد ضغطت على إسرائيل لثنيها عن توجيه ضربة وقائية للمنشآت النووية الإيرانية على غرار ما فعلت حين دمّرت مفاعل أوزيراك النووي العراقي الذي كان قيد الإنشاء في آب1981 والمفاعل النووي السوري في أيلول 2007. ومع استمرار إيران في تطوير برنامجها النووي، يواجه المجتمع الدولي التحدي المتمثل في تحقيق التوازن بين المشاركة الدبلوماسية والحاجة إلى الإشراف والمراقبة الصارمين. والافتقار إلى إطار دبلوماسي واضح وفعال يزيد من مخاطر الاستقرار الإقليمي، لأن أي سوء تقدير يرتّب عواقب كارثية.
تصطف دول الغرب إلى جانب إسرائيل في القول إن التكامل بين تطلعات إيران النووية وأنشطتها الإقليمية يشكل تحديا كبيرا للأمن في الشرق الأوسط وتصفه إسرائيل بالـ "تهديد الوجودي."
ولكن ما الذي يمكن أن يحدث إن مضت إيران في مشروعها وامتلكت سلاحا نوويا؟ هل فعلا لا يمكن التعايش مع إيران نووية؟
في العالم اليوم تسع دول تملك ترسانة نووية هي الولايات المتحدة وروسيا والصين وفرنسا وبريطانيا وباكستان والهند واسرائيل وكوريا الشمالية. هذه الترسانة بشقيها الاستراتيجي والتكتي تفوق 12 ألف رأس نووية، أكثر من 9500 منها يُصنّف كمخزون نشط صالح للاستخدام. تملك روسيا أكثر من 5500 رأس والولايات المتحدة 5050 والصين 500 ويتوقع أن يتضاعف هذا العدد بعد نحو ست سنوات. تملك فرنسا 290 رأسا وبريطانيا 240 وباكستان 170 والهند 160. ويقدَّر أنّ لدى اسرائيل ما بين 100 و400. ويُعتقَد أن لدى كوريا الشمالية مخزونا من اليورانيوم المخصّب يكفي لصنع ما بين 50 و60 قنبلة نووية.
منذ انتهاء الحرب العالمية الثانية لم تلجأ أي دولة نووية إلى هذا السلاح، رغم تعدد الحروب وبؤر التوتر والذرائع، مع أن العالم اقترب من الكارثة النووية غير مرّة وتراجع كلّ مرّة عن حافة الهاوية.
قبل نحو ستة عشر عاما قال لي مدير متقاعد لجهاز المخابرات الفرنسية الخارجية إنّ من الخطأ الظن أنّ التعايش مع إيران نووية غير ممكن. امتلاك السلاح النووي تلازمه مسؤولية تتهيّبها أي دولة لأنها إذا كانت تعتقد أنها باتت تمتلك قوة رادعة، فهي تعرف أيضا أنها قد لا تكون قادرة على تحمّل الرد. وهذا ما ردع الهند وباكستان، مثلا، عن اللجوء إلى السلاح النووي. وهو ما منع إسرائيل إلى الآن من استخدام ترسانتها النووية.
حتى الآن، يؤكد المسؤولون لإيرانيون أنهم لا يسعون إلى السلاح النووي لأن المرشد أفتى بتحريمه. لكن لا شيء نهائيا في هذا الأمر إذ يمكن أن تتغير الفتوى بتغيّر الظروف.
الاتفاق النووي الذي أبرم في 2015 شاركت في التفاوض عليه الدول الخمس الدائمة العضوية في مجلس الأمن وألمانيا. وأصدره مجلس الأمن بعد ذلك بقرار صدر بالإجماع. أما المفاوضات التي تجري الآن فهي بين الإيرانيين والأميركيين مع إصرار واشنطن على دور مركزي للمنظمة الدولية للطاقة الذرية. ولا يبدو أن لأي من الدول الأوروبية دخلاً فيها.
بالتوازي مع هذه المفاوضات، تحركت أكبر ثلاث دول سنّيّة في المنطقة وهي مصر والسعودية وتركيا، وهي دول معنية بتحوّل إيران إلى دولة نووية. وقد يكون هدف هذا التحرك بلورة موقف من هذا الاحتمال، أو تغطية لاتفاق إقليمي محتمل يقال إنه اقترب كثيرا، في شأن غزة والقضية الفلسطينية برمّتها، وقد يكون الاحتمالين معاً.
لكن عاملا جديدا طرأ، وهو رفع مستوى التعاون العسكري بين إيران وروسيا. فقد اتهم وزير الخارجية الأميركي انتوني بليتكن إيران بتزويد روسيا بـ 400 من صواريخ فاتح 110 البالستية القصيرة المدى، مقابل نقل روسيا خبرة نووية إلى إيران. وكانت إيران – رغم نفيها – زوّدت روسيا بمسيّرات واتفقت الدولتان على بناء مصنع للمسيّرات الإيرانية في روسيا مقابل حصول إيران على طائرات سو 35 وصواريخ س 400. لكن روسيا لم ترسل أيا من هذه التكنولوجيا لإيران بعد. وردت الولايات المتحدة وخلفاؤها الأوروبيون بفرض مزيد من العقوبات على الدولتين معاً.
وأغلب الظن أن بين غياب الدور الأوروبي والحراك السنّيّ وتطور التعاون العسكري الإيراني الروسي خيطا رابطا.
يجمع الخبراء العسكريين اليوم على أن الأسلحة النووية ستظل عاملاً مهما في الأمن العالمي في المدى المنظور لأنها قوة ردع. لكن هل يصبح السلاح النووي سلاحا عفا عليه الزمن مع التطور التكنولوجي والذكاء الاصطناعي فيصبح عبئاً على مالكيه.