الحرب الإسرائيلية المستمرّة منذ قرابة 12 شهراً على غزة، لم تسفر عن سقوط نحو 41 ألف فلسطيني وجرح أكثر من 80 ألفاً وتدمير 70 في المئة من منازل القطاع وبناه التحتية وإرغام أكثر من مليوني فلسطيني على النزوح من الشمال إلى الجنوب ومن ثم من الجنوب إلى الوسط، ودفعت بمعظمهم إلى مساحة لا تتجاوز 16 كيلومترا مربعاً ...وإلى حافة الجوع فقط، بل إنّ هذه الحرب دفنت أيضاً أيّ أمل بحلّ الدولتين.

إسرائيل منذ 7 تشرين الأول الماضي، وهي تشنّ حرباً انتقامية على غزة، تجاوزت فيها كلّ الخطوط الحمر، وتؤسس لاستمرار الصراع الفلسطيني-الإسرائيلي لعقود مقبلة، وتقضي على أيّة بارقة أمل في إيجاد تسوية في المستقبل المنظور، وقضت على عملية أوسلو بأكملها، وأعادت عقارب الساعة إلى الوضع الذي نشأ عقب حرب 1967.

السردية التي أطلقها رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو بعد هجوم "حماس" على غلاف غزة في 7 تشرين الأول، يتبناها معظم المجتمع الإسرائيلي، وهي القائمة على أنّ هذا الهجوم أثبت صحّة رأيه في ما يتعلق برفضه قيام دولة فلسطينية مهما كان شكلها، مثل منزوعة السلاح أو غيره.

يزعم نتنياهو أنّ التاريخ بدأ في 7 تشرين الأول، ويتجاهل 76 عاماً من الاحتلال الإسرائيلي. وعندما قال الأمين العام للأمم المتحدة أنطونيو غوتيريش بجرأة قلّ نظيرها، إن هجوم "حماس" لم يأت من فراغ، أثار موقفه عاصفة من التنديد الإسرائيلي.

في واقع الأمر، مات حلّ الدولتين منذ وصل نتنياهو إلى السلطة عام 1996، ثم من عام 2009 إلى الآن، باستثناء سنة واحدة، حكم فيها نفتالي بينيت ومن بعده يائير لابيد.

في واقع الأمر، مات حلّ الدولتين منذ وصل نتنياهو إلى السلطة عام 1996

أغرق نتنياهو الضفة الغربية بالاستيطان، وسيلة لجذب الناخبين من التيارات اليمينية المتطرفة، وهو يحكم منذ 2022 بائتلاف هو الأكثر تطرفاً قومياً ودينياً منذ تأسيس إسرائيل عام 1948. وبتوزير زعيم حزب "القوة اليهودية" إيتامار بن غفير وزعيم حزب "الصهيونية الدينية" بتسلئيل سموتريتش، نقل نتنياهو المستوطنين من حركة على هامش الدولة إلى قلب القرار السياسي.

توقفت المفاوضات الفلسطينية-الإسرائيلية رسمياً عام 2014، عندما رفض نتنياهو تجميد الاستيطان على رغم الضغوط التي مارسها عليه الرئيس الأميركي عامذاك باراك أوباما، وبوضعه شرطاً تعجيزياً على السلطة الفلسطينية، وهو أن تعترف بموجبه بـ"يهودية إسرائيل".

وفي واقع الأمر، يتراجع التأييد لقيام دولتين تعيشان جنباً إلى جنب منذ أكثر من عقد. وبينما كانت الاستطلاعات في الفترة الممتدة من التسعينات إلى 2010، تظهر أن ثمة غالبية قوية بين الفلسطينيين والإسرائيليين تؤيّد حلّ الدولتين، فإّن هذا التأييد في تراجع مستمر.

وبحسب استطلاع للمركز الفلسطيني للسياسات والأبحاث المسحية، فإن نسبة التأييد لحل الدولتين بين الفلسطينيين تدنّت إلى 32 في المئة، بينما أظهر استطلاع لمركز "بيو" للأبحاث، أنّ نسبة التأييد لحلّ الدولتين بين الإسرائيليين، قد تراجعت بعد حرب غزة، إلى 19 في المئة.

هناك أكثر من 500 ألف مستوطن يعيشون في الضفة الغربية، وأكثر من 200 ألف في القدس الشرقية. وتكاثر المستوطنات والطرق الالتفافية حولها، يزيد من صعوبات قيام دولة فلسطينية متّصلة جغرافياً.

وبعد حرب غزة، وسّع الجيش الإسرائيلي من عمليات الدهم والاغتيال المستهدف ناشطين فلسطينيين في مخيمات الضفة ومدنها. وقبل أسبوعين أطلق الجيش عملية سمّاها اسماً رمزياً هو "مخيمات صيفية"، هي الأوسع منذ عملية "السور الواقي" عام 2002. وسقط 700 فلسطيني برصاص الجنود الإسرائيليين وهجمات المستوطنين على العديد من البلدات والقرى الفلسطينية منذ 7 تشرين الأول من العام الماضي. واتخذت الحكومة الإسرائيلية قرارات قضت بمصادرة آلاف الدونمات من أراضي الضفة لإقامة مشاريع استيطانية جديدة وتوسعة مستوطنات قائمة وتشريع بؤر عشوائية.

وأتت هذه القرارات انتقاماً من اعتراف إسبانيا والنروج وإيرلندا بدولة فلسطين في أيار الماضي، ليرتفع بذلك إلى 147 دولة تعترف بفلسطين من أصل 193 دولة أعضاء في الأمم المتحدة.

وفي تموز، ذهب الكنيست الإسرائيلي إلى سنّ قانون يرفض للمرة الأولى إقامة دولة فلسطينية، بغالبية 68 نائباً، بينهم زعيم حزب الوحدة الوطنية بيني غانتس. وعارض القرار 9 نواب فقط.

ويعتبر هذا القرار بمنزلة تشريع للقرار السياسي الإسرائيلي برفض إقامة دولة فلسطينية، وضربة قاضية لأيّ مسعى دولي في هذا الاتجاه، ولو كان صادراً عن الولايات المتحدة أو الاتحاد الأوروبي، أو كان يحظى بتأييد غالبية المجتمع الدولي.

وبذلك، هيّأ نتنياهو البيئة السياسية والقانونية لقطع الطريق على أيّ جهد دولي في اتجاه حلّ الدولتين. وفي الوقت نفسه، تتقاطع الحكومة مع المعارضة في رفض قيام دولة فلسطينية. وتوسّع هذا الرفض بعد 7 تشرين الأول إلى معظم شرائح المجتمع الإسرائيلي.

وفي كانون الثاني الماضي، قال نتنياهو إنّ إسرائيل تحتاج إلى سيطرة أمنية على الأراضي الواقعة غرب نهر الأردن، وإنّ هذا "يتناقض مع فكرة سيادة" الفلسطينيين على المنطقة.

ويرى رئيس المركز الفلسطيني للسياسات والابحاث المسحية خليل الشقاقي في مقابلة مع صحيفة "الوول ستريت جورنال" الأميركية، أنّ الدعم الفلسطيني لحلّ الدولتين، تراجع منذ 2010 في ظلّ تزايد الاعتقاد بأنّ مثل هذا الحل لم يعد قابلاً للحياة. وأضاف أنّ التوسع الدائم للمستوطنات ودخول المتطرفين والمؤيدين للاستيطان إلى القرار السياسي الإسرائيلي، جعلا الفلسطينيين يكافحون من أجل رؤية أيّ مجال للتسوية. وأشار إلى أنّ تأييد الفلسطينيين للكفاح المسلح ضد إسرائيل كان يتصاعد في الوقت نفسه.

وفي حال فوز المرشح الجمهوري دونالد ترامب في الانتخابات التي ستجري في 5 تشرين الثاني المقبل، فإنّ حل الدولتين يصير من التاريخ، لأنّ ترامب لم يكن يوماً من دعاة هذا الحل. وعندما اقترح "صفقة القرن" إبان رئاسته الأولى، خلا هذا الاقتراح من أيّ ذكر لقيام دولة فلسطينية، لا بل كان الاتجاه هو نحو الاعتراف بضمّ أكثر من 40 في المئة من أراضي الضفة لإسرائيل، ممّا يعني عملياً استحالة قيام دولة فلسطينية، وإلّا فستكون دولة على شكل "الجبنة السويسرية" على حد تعبير الرئيس الفلسطيني محمود عباس.