كادت الهيئة المستقلة للانتخابات في تونس تخلي الساحة تماماً من المرشّحين المنافسين للرئيس قيس سعيّد، الطامح إلى ولاية ثانية في الانتخابات التي ستجرى في 6 تشرين الأول المقبل، وذلك بعدما استبعدت الهيئةُ المرشّحين الذين يمكن أن يشكّلوا عوائق جدّية أمام فوز الرئيس.
تونس، كان يعتقد أنّها قصة النجاح الوحيدة لما سمّي بانتفاضات "الربيع العربي" عام 2011، عندما سقط حكم زين العابدين بن علي تحت وطأة التظاهرات المطالبة بالديموقراطية والتعددية. كان بن علي أول رئيس عربي يطيحه الشارع. وشهدت تونس مذاك انتخابات عدّة مشوبة بعدم الاستقرار السياسي، وتوالي الحكومات التي لم يعمّر معظمها في أفضل الأحوال أكثر من سنة واحدة.
وصل سعيّد إلى الرئاسة عام 2019، ليعمد بعد عامين إلى وضع دستور جديد نقل البلاد بموجبه من الحكم البرلماني إلى نظام رئاسي، حصر معظم الصلاحيات في يده، وهمّش مجلس النواب، وذلك باسم ترسيخ الاستقرار والقضاء على الفوضى.
وانعكست مقاطعة الأحزاب العام الماضي لانتخابات مجلس النواب الذي بات عبارة عن دمية في يد الرئيس، تدنياً قياسياً في نسبة الاقتراع وصلت إلى 12 في المئة فحسب، واقتصر الفوز على المرشّحين الموالين لسعيّد، الذي لا بد من أنّه يحظى بدعم الجيش، وإلّا لما كان تمكّن من إنشاء نظام على مقاسه.
وصل سعيّد إلى الرئاسة عام 2019، ليعمد بعد عامين إلى وضع دستور جديد نقل البلاد بموجبه من الحكم البرلماني إلى نظام رئاسي، حصر معظم الصلاحيات في يده
في هذه الأثناء، وقف الاتحاد الأوروبي وواشنطن موقف المتحسّر على الحريات، وعلى إبداء القلق من انحراف تونس نحو ما يسمّونه "حكماً سلطوياً" مرة أخرى، في إشارة إلى حكم بن علي.
زادت الإجراءات التي اتخذها سعيّد من التوتر الاجتماعي، فردّ بحملة قمع للمعارضين وزج برئيس البرلمان السابق راشد الغنوشي الذي ينتمي إلى حزب النهضة الإسلامي، ذي الجذور الإخوانية، في السجن، وكذلك كان الحال مع المعارضين من اليسار والقوميين، وضاق هامش الحرية على الصحافة إلى حدود بعيدة بسبب الانتقادات التي جاهرت بها لطريقة سعيّد في إدارة الحكم.
وزاد من التوتر السياسي، الأزمة الاقتصادية التي تفاقمت بفعل مديونية تستهلك 80 في المئة من إجمالي الناتج القومي للبلاد، وبلغت البطالة مستويات غير مسبوقة (نحو 80 في المئة)، وتراجعت القدرة الشرائية تحت تأثير ارتفاع التضخّم وزيادة معدّل الفقر. وقمعت الشرطة الاحتجاجات التي خرجت للمطالبة بالحريات وبالخبز.
في هذه المناخات المحتدمة اجتماعياً وسياسياً، حدّد سعيّد الذي يحكم بمراسيم، السادس من تشرين الأول موعداً لإجراء الانتخابات الرئاسية، وأعلن ترشّحه لولاية ثانية في إطار "حرب تحرير وتقرير مصير وثورة حتّى النصر ... من أجل تأسيس جمهورية جديدة". وقبل إعلان ترشّحه رسمياً، أجرى سعيّد تعديلاً وزارياً واسعاً شمل 19 وزيراً بعد نحو أسبوعين من إقالته رئيس الوزراء السابق أحمد الحشاني وتعيين كمال المدّوري خلفاً له.
ووضعت الهيئة المستقلّة للانتخابات التي عيّن سعيّد أعضاءها، معايير صارمة لقبول طلبات الترشيح، عبر اشتراط تأمين تزكيات من عشرة برلمانيين أو 40 مسؤولاً محلياً منتخباً، أو 10 آلاف ناخب مع ضرورة تأمين 500 تزكية على الأقلّ في كلّ دائرة انتخابية، وهو أمر يصعب تحقيقه.
وبلغ عدد المرشحين نحو 17 مرشحاً، لم تقبل الهيئة المستقلّة للانتخابات إلّا بأهلية ثلاثة منهم للترشّح، هم سعيّد وزعيم حركة الشعب زهير المغزاوي المحسوب على التيار القومي العربي ورجل الأعمال العياشي زمال. وما لبثت الشرطة أن اعتقلت الأخير بشبهة "افتعال تزكيات" مواطنين ضرورية لاستكمال ملف الترشح.
وأعلنت الهيئة استبعاد القيادي السابق في حزب النهضة عبد اللطيف المكّي، والوزير السابق في عهد زين العابدين بن علي والناشط البارز المنذر الزنايدي، وعماد الدايمي المستشار السابق للرئيس المنصف المرزوقي.
وعلى رغم أنّ المحكمة الإدارية قبلت الطعون التي قدّمها المرشحون الثلاثة، فإنّ الهيئة المستقلّة للانتخابات أصرّت على استبعادهم.
وبحسب منظمة "هيومان رايتس ووتش"، فإنّ السلطات التونسية حاكمت أو دانت أو سجنت ما لا يقلّ عن ثمانية مرشحين محتملين للانتخابات الرئاسية، ممّا يعني "منعهم من الترشح". ومن هؤلاء قادة المعارضة، كزعيم الحزب الجمهوري عصام الشابي، والأمين العام السابق لحزب التيار الديموقراطي غازي الشاوشي، ورئيسة الحزب الدستوري الحرّ عبير موسى.
بهذه الإجراءات، عبّدت الهيئة المستقلّة للانتخابات الطريق لفوز سعيّد بلا عوائق. لكن تبقى مسألة مهمة أمام سعيّد، وهي نسبة المشاركة في الانتخابات، فإذا كانت النسبة مشابهة لنسبة المشاركة في الانتخابات النيابية، فمما لا شكّ فيه أنّ ذلك سيفتح الباب للمعارضة بجميع أطيافها إلى التشكيك في شرعية سعيّد.
لا يعني هذا التشكيك شيئاً ما دام سعيّد يتمتع بدعم المؤسسة العسكرية، في حين أنّ دول الاتحاد الأوروبي التي لا تريد نشوب اضطرابات في تونس تؤدّي إلى تدفّق موجات جديدة من اللاجئين نحو الضفة الأخرى للمتوسط، تسلك مسلكاً مرناً حيال سعيّد وتتفادى الذهاب في توجيه الانتقادات إليه.
والمشكلة التي تواجهها تونس، هي أنّ الحكم التعدّدي الذي نشأ على أنقاض حكم بن علي، لم يستطع استيعاب الجميع، وحتّى عندما تفرّد حزب النهضة بالحكم مرحلة من الزمن، استفز القوى الأخرى وجعلها تنتفض ضده.
وإذا ما أضيف الاستياء الواسع من الإجراءات السياسية لسعيّد إلى الضغوط المعيشية التي تثقل كاهل التونسيين، تكون تونس قد دخلت مرحلة حادّة من التشنجات، التي يمكن أن تترجم انفجاراً في الشارع مرة أخرى.