التوغّل الأوكراني الذي مضى عليه أكثر من أسبوع في منطقة كورسك داخل الأراضي الروسية، اختلف السياسيون والقادة العسكريون في تفسير المرامي والخلفيات التي دفعت الرئيس الأوكراني فولوديمير زيلينسكي إلى اتخاذ قرار على هذا المستوى من الخطورة.
اختار الجيش الأوكراني خاصرة رخوة في الأراضي الروسية ليقتحم من خلالها عشرات القرى في كورسك، بينما استبدّت المفاجأة بالمدافعين الروس وجلّهم من المجنّدين الجدد، الذين لم يختبروا ميادين القتال بعد، هذا ما سهّل على وحدات من نخبة الجيش الأوكراني التوغل إلى نحو مسافة 40 كيلومتراً من دون أن يواجهوا مقاومة فعلية. وكان الهجوم أشبه بالهجوم المعاكس الخاطف الذي شنّته القوات الأوكرانية أواخر عام 2022 وطردت خلاله القوات الروسية من منطقة خاركيف.
ليس الجنود الروس وحدهم الذين فوجئوا بالهجوم، وإنّما الرئيس الروسي فلاديمير بوتين، الذي اعتبر العملية العسكرية الأوكرانية، من باب محاولة تحسين موقع كييف في حال جلوس الأطراف إلى طاولة الحوار، للبحث في وقف للنار وتسوية سياسية للحرب التي مضى عليها 30 شهراً.
ولم يخفِ زيلينسكي أنّ هدف العملية العسكرية هو نقل الحرب إلى داخل روسيا، وجعل الروس يشعرون بوطأة ما شعر به الأوكرانيون منذ بدء الهجوم الروسي في 24 شباط 2022. وعلاوة على ذلك، أرادت القيادة الأوكرانية إظهار قدرتها على اختراق مهم للحدود الروسية، متى أرادت على رغم الخسائر التي لحقت بها في الحرب.
لم يخفِ زيلينسكي أنّ هدف العملية العسكرية هو نقل الحرب إلى داخل روسيا...
ووفّر التوغل السهل للجيش الأوكراني استعادة معنويات الجنود الذين يعانون منذ فشل الهجوم المضاد في صيف العام الماضي، من ضغوط روسية على خطوط الجبهة الممتدة على ألف كيلومتر، ولا سيما في منطقة خاركيف في الشمال الشرقي وفي دونيتسك في الشرق.
وكانت القوات الروسية منذ الخريف الماضي تتقدّم ببطء نحو مواقع جديدة، مستغلّة النقص الحاد في الرجال والعتاد على الجانب الأوكراني، وتدنّي معنويات جنود، بعضهم يقاتلون منذ بدء الحرب من دون أن تتاح فرصة للاستراحة أو لإحلال جنود آخرين محلهم.
هذا الواقع جعل بعض المحلّلين الغربيين يعتقدون أنّ التوغل الأوكراني يحمل رسائل عدة، بينها دفع موسكو إلى سحب قوات من خطوط الجبهة في دونيتسك وخاركيف من أجل الدفاع عن كورسك. وفي الوقت نفسه، توجيه ضربة معنوية إلى بوتين، كونها المرة الأولى منذ الحرب العالمية الثانية التي تتوغّل فيها قوات أجنبية داخل الأراضي الروسية. عامل من شأنه أن ينعكس سلباً على معنويات الجنود الروس ويظهر الكرملين بمظهر العاجز عن حماية أراضي البلاد.
اللافت أنّ واشنطن قالت إنّها فوجئت بالتوغل الأوكراني، ولم تؤيّده أو ترفضه، علماً بأنّها كانت قد سمحت لكييف باستخدام أسلحة أميركية ضد القوات الروسية التي تهاجم في منطقة خاركيف. لكن التوغّل داخل روسيا مسألة مختلفة لأنّها تعتبر خطوة تصعيدية تخشى معها من انتقام روسي واسع. وهذا ما حذّر منه البيت الأبيض. أمّا بعض السيناتورات الأميركيين المؤيدين لأوكرانيا على غرار الجمهوري ليندسي غراهام الذي زار كييف بعد العملية، فقد أعلن تأييده للتوغل داخل روسيا. وغراهام صديق للمرشح الجمهوري للانتخابات الرئاسية الأميركية دونالد ترامب، وهو صلة الوصل الآن بين زيلينسكي والرئيس الأميركي السابق. وزيارته لأوكرانيا في هذا التوقيت تنطوي على دلالات كبيرة.
يقود هذا إلى معطى مهم، وهو تزامن الهجوم الأوكراني مع حماوة المشهد الانتخابي في الولايات المتحدة. ولا يخفي زيلينسكي قلقه من عودة ترامب إلى البيت الأبيض، لأنّ الأخير يدعو إلى وقف الحرب. وسبق أن أعلن معارضته للمضي في المساعدات الأميركية العسكرية والاقتصادية لأوكرانيا، وتعهّد وضع حدّ للحرب في غضون 24 ساعة من تسلّمه منصبه.
إن إقدام زيلينسكي على تحريك خط الجبهة إلى الداخل الروسي، أرسى من دون شك توازنات جديدة في الحرب. فهل يتشجع الغرب على الذهاب أبعد في مسألة تسليح أوكرانيا لتعزيز موقع كييف وخلق واقع عسكري-سياسي يرغم بوتين على القبول بالدخول في مفاوضات لوقف النار والتسوية السلمية من دون شروط يتمسّك بها إلى الآن، وهي تنازل أوكرانيا عن الأراضي التي سيطرت عليها روسيا منذ بدء الحرب؟ أم تذهب روسيا إلى تصعيد واسع في هجماتها؟
الكثير من ذلك يتوقّف على مدى قدرة الجيش الأوكراني على الاحتفاظ بالأراضي التي توغّل فيها، ويتوقّف أيضاً على قدرة الجيش الروسي على إخراج القوات الأوكرانية من الأراضي التي سيطرت عليها.
متابعون كثر للحرب الأوكرانية يعتبرون أنّ التوغل في كورسك لا يخلو من مخاطر عسكرية وسياسية، قد ترتدّ على كييف في المستقبل.