في بلد العجائب، يستفيق اللبنانيون كلّ يوم على مصيبة جديدة، من مياه مقطوعة، أو عطل في شبكة الانترنت، أو أعطال في شبكات مياه الصرف الصحي، أو زحمة سير خانقة، أو حوادث على الطرق، أو مواد غذائية مقطوعة، أو أموال محجوزة في المصارف…إذاً هو مسلسل طويل، لا تنتهي حلقاته المشبّعة بالأزمات والمشاكل، إلاّ أنّ الأزمة الكبرى التي "لا يعلى عليها"، ونالت عن جدارة "جائزة الشرف" التي ستدخلها في كتاب "غينيس" للأرقام القياسية، هي أزمة الكهرباء، هذا الاختراع الذي تحوّل إلى معضلة لن يتمكّن زعماء لبنان في حياتهم من حلّها. وفي جديد قصة "إبريق الزيت" فواتير "ملغومة" وصلت إلى عدد من المواطنين، تخطّى بعضها الألف دولار على سعر الصرف الحالي، فيما بعضها الآخر لم يحظ بتوقيع رسمي. ولولا تنبّهُ المشتركين إلى ضخامة الأرقام، لوقعوا ضحايا "إهمال" المعنيين وعملية نصب صريحة.
حتى وزير الطاقة وليد فياض نفسه، لم يسلم من هذا "الخطأ" إذ أطلّ في مقابلة تلفزيونية قبل حوالى الشهر، مشيراً إلى أنّ الفواتير يمكن أن تحتوي على أخطاء. وأضاف: "هذا ما حصل معي، فقد وصلت الفاتورة أغلى بعشرة أضعاف". وجاء كلام فياض، المسؤول الأوّل عن إدارة مرفق الكهرباء في لبنان، ليؤكّد مرّة جديدة حجم الفوضى الحاصلة في قطاع الكهرباء.
الخطأ في الفواتير
في هذا الإطار، قال لـ"الصفا نيوز" غسان بيضون الخبير في المعهد اللبناني لدراسة السوق، ومدير عام الاستثمار السابق في وزارة الطاقة والمياه "بعد أن تعاقدت مؤسسة كهرباء لبنان مع مقدّمي الخدمات، كانت الغاية من العقد ليس تخفيض الهدر والسرقة فحسب بل كذلك تحسين الفوترة والجباية والتحصيل، وبالتالي أصبحت الفوترة من واجب مقدّمي الخدمات، المسؤولين عن تأشيرة العدادات، بعد أن كانت الفواتير في السابق، تصدر عن مؤسسة كهرباء لبنان. ليصبح من مؤشّرات أداء مقدمي الخدمات، تحقيق الفوترة وتحسين الجباية".
وتابع بيضون "في السنوات الأخيرة، طرأ تغيير على محتسبي كهرباء لبنان، إذ تقاعد المحتسب وأصبح هناك فترة شغور ليعاد ويتمّ تعيين محتسب ثانٍ، فحصلت موجة فواتير تشوبها أخطاء، وهذا دليل على سوء إدارة وأداء مقدمي الخدمات، وعدم ممارسة رقابة جدّية للمؤسسة. فبعد أن كان مدير مشروع شركة needs، منير يحيى، يرقاب أداء مقدّمي الخدمات وهي 4 شركات، رفع تقريراً إلى الوزارة، قال فيه إنّ أداء هؤلاء دون المستوى وهم لا يحقّقون المؤشرات المطلوبة. وأبلغني إذ كنت مدير عام استثمار آنذاك، وأبلغ الوزير المعني بأنّ المشروع فشل فشلاً ذريعاً، وبات يشكّل نزفاً كبيراً للمؤسسة، ويجب نسفه وتدارك المخاطر ووضع برنامج للمعالجة. طالب بوقف دفع مبلغ وقدره 90 مليون دولار للشركات التي تقدّم هذه الخدمة. إلاّ أنّ وزير الطاقة آنذاك لم يقبل بالاعتراف بفشل المشروع، على الرّغم من أنّه كان نموذجاً لأسوأ تعاون يمكن أن يحصل بين الدولة والقطاع الخاص. لجأ الوزير ومن خلفه إلى مجلس الوزراء في العام 2017 وحصل على موافقة من مجلس الوزراء للتمديد لمقدّمي الخدمات وإعفائهم من المبالغ المحجوزة ومن تحقيق المؤشّرات المطلوبة. فعاد هؤلاء واستأنفوا عملهم، وتخلّصوا من مدير البرنامج، واستبدلوه بآخر جاء بالتراضي. وفي العام 2019، تمّت إضافة سطر في الخطة يقول بتعزيز دور مقدّمي الخدمات ووافقت الحكومة على هذه الخطة وترجمت معناها بتولّي مقدمي الخدمات المزيد من الصلاحيات والإجراءات والمهام".
هيئة ناظمة لفساد الطاقة؟
واعتبر بيضون أنّه بقراره هذا تحوّل مجلس الوزراء إلى هيئة ناظمة لفساد "الطاقة"، منتقداً تصرّف وزير الطاقة حين وصلته فاتورة كهرباء فيها خلل، وقام بمراجعة الجهة المعنية وصلّح الخلل، "فبدا وكأنّه يتفاخر، فيما المطلوب كان فهم مكامن الخلل وإصلاحها لعدم تكرار الأخطاء".
وعن الجهة الصالحة للمراجعة أو تقديم شكوى في حال تسلّم فاتورة يشوبها خطأ، أجاب بيضون "على المستهلك مراجعة مؤسسة كهرباء لبنان، فهو لا يحقّ له مراجعة مقدّمي الخدمات"، عازياً أسباب الفواتير الملغومة إلى "خطأ في نقل المعلومات، إمّا من الجابي أو من الذي يدخل المعلومات إلى السيستام"، مضيفاً "عندما يكون هناك ضغط على الطبع، قد تمرّ فواتير بيضاء، أو يشوبها خلل فيما الجهة المسؤولة عن مراقبة الفواتير والختم هي مؤسسة كهرباء لبنان، وهو ما لا يحصل في أحيان كثيرة"، مستشهداً بحادثة منطقة مزبود، عندما تلقّى الأهالي عدداً هائلاً من الفواتير المغلوطة، وهذا ما استدعى تدخّل أمن الدولة. واعتبر بيضون أنّ "الفواتير غير الموقّعة خطأ فادح، يتحمّل مسؤوليته مقدم الخدمة ومؤسسة كهرباء لبنان على حدّ سواء".
ولحماية المواطن نفسه عليه، برأي بيضون "عدم دفع فاتورة غير موقّعة رسمياً، ومقارنة كل مشترك الفاتورة بعداده، وقياس الفرق أيضاً بالفاتورة السابقة".
أمّا المواطن الذي لا يملك عدّاداً بعد على الرّغم من تقديمه طلباً، فـ"عليه تقدير التكلفة، وهو الوحيد الذي يحقّ له تعليق صورة عن إيصال الاشتراك، حيث يتم تركيب ديجانتور خاص به، ويؤخذ منه مبلغ مقطوع" بحسب بيضون الذي رأى "أنّ هذا الوضع ناتج من حالة الفوضى وسوء إدارة مؤسسة كهرباء لبنان للقطاع، وضعفها في مواجهة الوزير الذي يسعى دائماً إلى فرض سلطته على قرارات المؤسسة، ليبقى المواطن وحده رهينة كلّ هذا الفساد".
فضيحة الفيول العراقي
على مقلب آخر، هنالك فضيحة مدوّية، إذ عجزت الدولة اللبنانية عن دفع المستحقّات المتوجبة عليها، مقابل النفط العراقي، وهذا ما استدعي سفر رئيس حكومة تصريف الأعمال نجيب ميقاتي إلى بغداد، والتفاوض مع رئيس مجلس الوزراء العراقي محمد شياع السوداني لتمديد مهلة الدفع، ليوعز بعدها السوداني باستمرار تزويد لبنان الفيول العراقي.
وعلّق بيضون على ما حصل "بعد أن رفعت مؤسسة كهرباء لبنان التعرفة بناء على خطة الطوارئ التي وضعتها الحكومة مع وزارة الطاقة، بهدف زيادة بدل التأهيل لتعويض العجز المالي للمؤسسة ودعم ذوي الاستهلاك المحدود، لم تجرؤ المؤسسة على الاعتراض على الخطة، بل وضعت شروطاً تمكّنها من أن تكون مسؤولة عن نتائج تنفيذ الخطة. وجاء في شروطها طلب التعاون من وزارات الداخلية والدفاع والعدل والمالية ومصرف لبنان. كما طلبت المؤسسة الحكومة بدفع 460 مليون دولار ثمن النفط العراقي و80 مليون دولار مستحقّات لمقدّمي الخدمات والتشغيل والصيانة، وطلبت من مصرف لبنان مساعدتها على تحويل دولاراتها على سعر منصّة صيرفة آنذاك".
أمّا اليوم فقد افتُضحت الدولة إذ لم تتمكّن من دفع ثمن النفط العراقي، يتابع بيضون، "فيما اتجهت الوزارة إلى فتح باب مناقصة لشراء فيول من مصادر أخرى، وهو ما أغضب العراق الذي أوعز إلى شركة سومو بحجز آخر باخرة نفط في لبنان، وهو ما دفع برئيس الحكومة إلى السفر إلى العراق لحلّ المشكلة والتستّر على الفضيحة".
ويقول بيضون عن هذه المشكلة "في حال عجز الدولة عن تسديد سعر النفط قد ترفع مؤسسة كهرباء لبنان التعرفة إلى 37 سنتاً لتعادل تعرفة المولّدات".
إذاً، هي فوضى حقيقية. لا فواتير سليمة، ولا إدارة سليمة، ولا جباية سليمة، ولا حتّى تسديد للديون. وهذا ما يطرح تساؤلات عدة عن الفكر السائد في صفوف المسؤولين حول كيفية إدارة المرافق الحيوية في هذا البلد المعذّب.
1