لا ريب في أنّ المخططات الإستراتيجية الكبرى للولايات المتحدة تبقى هدفًا ثابتًا لها، خصوصًا تلك المتعلّقة بالمشاريع الاقتصادية الضخمة، كالخط البرّي أي (خطّ القطارات) الذي يربط الهند بحيفا، والمعروف بـ "خط بايدن"، و يمرّ في الخليج العربي، وقد يعود عليه بنتائجٍ اقتصاديةٍ كبيرةٍ، وذلك لمواجهة المبادرة الصينية التي تحمل اِسم "الحزام والطريق" أو "طريق الحرير الجديد". وهو مشروع صيني عملاق تشارك فيه 123 دولة، تريد الصين من خلاله تسريع وصول منتجاتها إلى الأسواق العالمية، بما في ذلك آسيا وأوروبا وأفريقيا وأميركا الجنوبية والوسطى، ليكون أكبر مشروع بنية تحتية في تاريخ البشرية، ويشمل ذلك بناء مرافئ وطرق وسكك حديد ومناطق صناعية.
مع العلم أن مواجهة المشروع الصيني ضرورة إستراتيجية لدى الإدارة الاميركية، كونه يتيح للصين الوصول إلى أسواقٍ كبيرةٍ ويمنحها تمدّدًا وقوةً اقتصاديةً أكبر، الأمر الذي تعتبره واشنطن تهديدًا لنفوذها الاقتصادي كأقوى قوةٍ عظمى، لأنّ نجاح المبادرة الصينية يقفل أبواب أسواقٍ اقتصاديةٍ كبيرةٍ في العالم في وجه الولايات المتحدة، وبالتالي يؤدّي إلى مزيدٍ من التراجع في اقتصادها أمام إمكان تقدم الصين، التي تسعى إلى تعزيز دورها الاقتصادي العالمي، بمعزلٍ عن الأسواق الأميركية، في حال احتدام الصراع بين بكين وواشنطن لاحقًا.
ورغم الدعم الأميركي المطلق لإسرائيل، فإنْ البعد الجديد للصراع مع تعاظم التهديد الصيني، يدفع بواشنطن إلى إطلاق يد تل أبيب بل الأخذ بها في حربها التي تخدم المصلحة الأميركية الإستراتيجية بالدرجة الأولى. وهكذا تصبح مفهومة تغطية أميركا لكل ما ترتكبه إسرائيل من مجازر وتدمير في قطاع غزة رغم الارتدادات الإقليمية لما يجري. ومع اشتداد حماوة الأجواء في المنطقة، بعد اغتيال رئيس المكتب السياسي لحركة حماس إسماعيل هنية في طهران، وقبله بساعات قليلة القيادي في حزب الله فؤاد شكر في ضاحية بيروت الجنوبية، الأمر الذي قد يدفع بالأوضاع نحو احتمال وقوع مواجهة كبرى بين محور المقاومة وإسرائيل، من الممكن أن تستغلّها الإدارة الأميركية لخدمة مخططها المذكور آنفًا، أي تمرير (خط بادين) من خلال استمرار الدعم لتل أبيب في حربها على حماس، وهذا ما يتيح تسلّم السلطة الفلسطينية في الضفة الغربية إدارة "القطاع" أيضًا. على اعتبار أنّ هذه السلطة تحظى بشرعيةٍ دستوريةٍ وبغطاءٍ عربيٍ- خليجيٍ قد يؤهّلانها لتسلّم السلطة في الضفة والقطاع معًا في المرحلة المقبلة بدعمٍ غربيٍ- عربيٍ، من أجل استكمال تطبيع العلاقات العربية- الإسرائيلية، خصوصًا بين الرياض وتل أبيب، وهو ما يسهم في دفع مشروع خط الهند- حيفا قدمًا، على اعتبار أنّ المملكة العربية السعودية، بما لها من رمزيةٍ لدى المسلمين السُّنّة في العالم، ترفض السير بـ"التطبيع" قبل التوصل إلى اتفاق يفضي إلى فرض "حلّ الدولتين" في فلسطين المحتلّة. لذا صار لزامًا على واشنطن البحث عن حلٍ يرضي المملكة ويحفظ ماء وجهها لما لها من رمزيةٍ وحضورٍ في العالمين العربي والإسلامي.
صار لزامًا على واشنطن البحث عن حلٍ يرضي المملكة ويحفظ ماء وجهها...
"يهودا والسامرة" العقدة في طريق "المشروع"
منذ توقيع اتفاق أوسلو بين منظمة التحرير الفلسطينية وإسرائيل في أيلول 1993 وما قبل أيضًا، إلى الساعة، لم توافق الأخيرة على قيام دولةٍ فلسطينيةٍ ذات سيادةٍ حقيقيةٍ على أراضيها، أي لا مجال لتمرير "حلّ الدولتين" في المدى المنظور، خصوصًا أنّ إسرائيل تعتبر أنّ "يهودا والسامرة"، وهو مصطلح إسرائيلي رسمي يستخدم للإشارة إلى الضفة الغربية. وهما منطقة إدارية بحسب التقسيم الإسرائيلي، الذي يشمل الضفة الغربية. لذا قد تسعى الولايات المتحدة لتمرير مشروع حلٍ يكون مقبولًا لدى السعودية، كإرسال قوةٍ عسكريةٍ خليجيةٍ إلى "القطاع" لضبط الأوضاع فيه بعد انتهاء العدوان الإسرائيلي على غزّة، مع الاحتفاظ بوجود سياسيٍ لحماس منزوعة السلاح، على سبيل المثال، لا الحصر.
إذًا، يبدو أنّ تطوير السلطة الفلسطينية، إن لم نقل قيام دولة فلسطينية، بات حاجةً أميركيةً في سبيل نجاح تمرير "خط الهند- حيفا"، وليس كرمى لعيون الفلسطينيين على الإطلاق. فهل يستمر الضغط الأميركي المباشر وغير المباشر على الأطراف المعنية بالمشروع الأميركي، أي خط بايدن، حتّى تأمين الظروف الملائمة لتمريره فتنفيذه؟