جاء عيد الجيش اللبناني، وانهالت معايدات النواب والوزراء والسياسيين، الذين سارعوا إلى نشر التغريدات والمنشورات على صفحاتهم على وسائل التواصل الاجتماعي، ومشاركة الشعارات المؤيّدة للجيش "حامي الوطن"، فيما بعض هؤلاء أنفسهم كانوا السبب في حرمان الجيش اللبناني من حقوقه، ووافقوا مراراً وتكراراً على تخفيض موازنته ليصبح من دون عتاد ومن دون راتب كريم ومن دون امتيازات. وهم الذين ساهموا في ضرب المؤسسة العسكرية، ليصبح مصير العسكري "فاليه باركينغ" أو "سائق تاكسي"، أو "نادلاً في مطعم"، وإذا رفض العمل كان مصيره الوقوف ساعات طويلة تحت الشمس أو في الليالي على الطرق بانتظار "أوتو ستوب" يقلّه إلى بيته. 

الجيش الذي يُعتبر أحد أعمدة الاستقرار في البلاد، يواجه تحدّيات مالية كبيرة تهدّد قدراته التشغيلية وكفاءته في حماية البلاد والحفاظ على الأمن. 

ومن أبرز هذه التحديات: 

الأزمة الاقتصادية: 

بدأت الأزمة الاقتصادية في لبنان تتفاقم منذ عام 2019، إذ شهدت البلاد انهياراً مالياً، وبالتالي احتجاز المصارف أموال المودعين، وهو ما أثّر سلباً في جميع القطاعات. والسبب الرئيس هو تراكم الدين العام وعجز الموازنة، وسوء إدارة الموارد وكثرة الفساد. هذا الانهيار أدى إلى تدهور العملة المحلية تدهوراً جعل تأمين الموارد المالية للجيش أمراً بالغ الصعوبة. 


تقليص المساعدات الخارجية: 

كان الجيش اللبناني يعتمد بشكل كبير على المساعدات الخارجية، خاصّة من الولايات المتحدة الأميركية وبعض دول الخليج. ومع تدهور العلاقات الدبلوماسية وتغيير الأولويات السياسية لهذه الدول، تقلّصت المساعدات كثيراً. هذا النقص في التمويل الخارجي أثّر بشكل مباشر على جاهزية الجيش وقدرته على تحديث معدّاته وتدريب قواته. 

تدهور الظروف المعيشية للعسكريين: 

من أبرز تجلّيات الأزمة الاقتصادية تأثيرها في الظروف المعيشية للعسكريين وأُسرهم. انخفضت رواتبهم بشكل كبير نتيجة تدهور قيمة الليرة اللبنانية، وهذا ما جعل توفير الحاجات الأساسية أمراً بالغ الصعوبة، فأدّى ذلك إلى تزايد حالات الاستقالات والفرار والغياب غير الشرعي عن الخدمة. 

في حديثه لـ "الصفا نيوز" قال العميد الركن الطيار المتقاعد أندره أبو معشر "قبل العام 2019، كانت الدولة قد أعطت جميع موظفي القطاع العام علاوة سلسلة الرتب والرواتب، ولكن بعد الانهيار الاقتصادي وارتفاع سعر صرف الدولار إلى 90 ألف ليرة، خسرت الرواتب 90 في المئة من قيمتها وأصبح العسكريون يتقاضون 10 في المئة من نسبة رواتبهم السابقة"، مضيفاً "حاولت الحكومة إجراء عملية تصحيح للأجور، لترفع الرواتب ويصبح مجموعها 9 أضعاف، إلّا أنّ هذه الخطوة استولدت مشاكل عديدة، أبرزها: 
- الزيادة كانت ناقصة، فكي تعود الرواتب إلى ما كانت عليه قبل الـ2019، يجب أن ترفع الرواتب 60 ضعفاً. 
- الدولة بدأت بجباية الضرائب والرسوم والغرامات على الـ90 ألف ليرة فيما الزيادة على الرواتب لا تعادل قيمة رفع الضريبة. 
- القيمة الشرائية للرواتب لا تكفي العسكريين لتلبية أبسط حقوقهم، فبعد الزيادة الثالثة، أصبح راتب غالبية العسكر لا يتخطى الـ20 مليون ليرة أي حوالى الـ220 دولاراً، فكيف للمصابين في الحروب وعوائل الشهداء والعسكريين في الخدمة الفعلية والمتقاعدين أن يتقاضوا 220 دولاراً فقط مقابل دفاعهم عن الوطن!". 
وطرح أبو معشر إشكالية وهي "أنّ الوفر الذي تحقّقه الدولة في موازنتها جاء نتيجة سلب الناس حقوقها، إذ هناك ضبّاط عاجزون عن تأمين بدل اشتراك كهرباء بعد أكثر من 30 سنة في الخدمة العسكرية. كما أنّ طريقة توزيع الزيادة ألغت الفرق بين الفئات الوظيفية، لتصبح معظم الرتب تتقاضى القيمة نفسها. فيما كانت الرواتب تراوح بين 700 ألف ومليونين، أي بين حوالي الـ500 دولار والـ1300 دولار"، معتبراً "أنّنا في وضع استثنائي وغير طبيعي، فكيف يسمح للعسكريين بمزاولة مهنة أخرى ونحن في حالة حرب؟"، سائلاً "ماذا سيحصل في حالة الاستنفار والحاجة إلى حجز العسكريين؟"، ويعتقد أبو معشر أنّه من الصعب أن يلتحق جميع العسكريين بمراكزهم في حالة الاستنفار في الوقت الذي لديهم التزامات أخرى وأصبح ولاؤهم لرب عملهم الجديد؟". 

نقص المعدات والتجهيزات 

يواجه الجيش اللبناني نقصاً حاداً في المعدات والتجهيزات الأساسية. مع تراجع الموازنة، أصبح من الصعب تأمين الذخائر، والأسلحة الحديثة، وقطع الغيار للمعدات العسكرية. هذا النقص يؤثّر سلباً في القدرة العملياتية للجيش وفي تنفيذ مهامه بكفاءة. في رأي العميد المتقاعد أنّ "موازنة الجيش تنقسم شقين، الشق الأول هو الرواتب والأجور، أمّا الشق الثاني فهو الطبابة والغذاء والعتاد، هذه العناصر الثلاثة هي التي يتمّ إنقاصها عاماً بعد عام، وهذا ما يؤثر سلباً في جاهزية الجيش". 

بالإضافة إلى ما سبق، يغيب مبدأ العدالة في الرواتب بين موظّفي السلك العسكري والقطاع العام. شرح أبو معشر أنّ "موظفي القطاع العام يأخذون بالإضافة إلى رواتبهم، زيادات بدل مثابرة وبدل إنتاجية ومكافآت. فعلى سبيل المثال تمّ توزيع بدل ساعات إضافية على موظفي وزارة المال، أمّا القضاة فدفعت الدولة الأموال إلى صندوق التعاضد، وسحب القضاة هذه الأموال من الصندوق. والواقع نفسه ينطبق على دكاترة الجامعة اللبنانية وأساتذة التعليم الرسمي. في حين أنّ  ما نطلبه من الدولة هو توقيف كلّ "العطاءات" وتوحيد النسب بين الجميع على أن لا تتعدى الـ 40 في المئة، وبذلك نضمن أننا لم نظلم أحداً"، معتبراً أنّ "الحكومة تعمل وفق سياسة الترقيع والحلقات المفرغة. فكيف هناك موظفون كموظفي أوجيرو يتقاضون رواتبهم بالدولار، فيما يتقاضى الآخرون الرواتب بالليرة اللبنانية؟ وكيف لموظف في الضمان أن يتقاضى 700 دولار أكثر مما يتقاضى عميد في الجيش؟ وعندما نطالب، كعسكريين، بحقوقنا يأتي الجواب بأن لا تمويل وأن عددنا كبير. وكيف لموظف مدني في الجيش أن يتقاضى أكثر من العسكري نفسه؟ فالعميد يتقاضى 600 دولار والموظف المدني 700". 

في إطار متصل، لفت العميد المتقاعد سامي الرماح في حديثه لـ "الصفا نيوز" إلى أنّ "هناك نحو الـ75 ألف متقاعد من السلك العسكري على قيد الحياة، يواجه جميعهم انتقاصاً في أبسط حقوقهم. لأنّ المبلغ الذي يتقاضونه لا يكفيهم لسداد ثمن الطعام والماء وبدل ايجار ومواصلات، وهي أبسط متطلبات العيش. علماً بأنّ الزيادات التي ألحقت بمعاشاتهم لم تدخل في أساس الراتب". 

وتابع "في كلّ دول العالم عندما تزداد كلفة المعيشة تجتمع لجنة مؤشّر الغلاء. وعلى أساس قيمة السلّة الغذائية تتم زيادة المعاشات، أمّا في لبنان فرفع الرواتب لم يكن عادلاً، إذ حصل موظفو وزارة المال على زيادة بنسبة 120 في المئة، أما القضاة فحصلوا على نسبة 200 في المئة، فيما تعويضات العسكريين لا تتخطى الـ2000 دولار، وراتب العسكري لا يكفيه أكثر من أسبوع". 


تأثير الأزمة على الجيش: 

تراجع التدريب والجاهزية القتالية 

بسبب الأزمة المالية، تقلّصت برامج التدريب والتأهيل للجنود. هذا التراجع في التدريب يؤثّر سلباً في جاهزية القوات المسلّحة ويقلل من قدرتها على الاستجابة الفعالة للتحديات الأمنية، داخلية كانت أم خارجية. 


معنويات منخفضة 

المعنويات المنخفضة في صفوف العسكريين تعدّ من أخطر التأثيرات السلبية للأزمة. الجنود الذين يواجهون ظروفاً معيشية صعبة يشعرون بالإحباط وفقدان الأمل، وهذا ما يؤثر على أدائهم واستعدادهم للتضحية من أجل الوطن. 



الحلول المقترحة: 


تعزيز الشفافية ومكافحة الفساد 

من الضروري أن تتخذ الحكومة خطوات جادة لتعزيز الشفافية ومكافحة الفساد في المؤسسة العسكرية وفي جميع مؤسسات الدولة. هذا يمكن أن يساهم في استعادة الثقة الداخلية والدولية، وبالتالي جذب المساعدات والاستثمارات. 


إعادة هيكلة التمويل العسكري 

يتعين على الحكومة البحث عن حلول مبتكرة لإعادة هيكلة التمويل العسكري. يمكن أن تشمل هذه الحلول تحسين إدارة الموارد، وتفعيل برامج شراكة مع القطاع الخاص، وزيادة الاعتماد على الإنتاج المحلي للمعدات العسكرية. 


تحسين الرواتب والظروف المعيشية 

ينبغي العمل على تحسين الرواتب والظروف المعيشية للعسكريين وأُسرهم. هذا يمكن أن يتم من خلال توفير حوافز مالية إضافية، وتحسين الخدمات الصحيّة والتعليمية المقدّمة لهم، فيساهم ذلك في رفع معنوياتهم واستقرارهم النفسي والاجتماعي. 

الأزمة الاقتصادية التي يعاني منها الجيش اللبناني تعدّ تحدياً كبيراً للدولة. يتطلّب التغلّب عليها تعاوناً بين مختلف الأطراف المحلّية والدولية، وتبنّي سياسات إصلاحية جادة. إنّ الجيش اللبناني، بما يملكه من تاريخ وطني عريق، يستحقّ الدعم والتقدير ليتمكّن من أداء دوره في حماية البلاد والحفاظ على استقرارها.