كتب جمال واكيم لـ"الصفا نيوز"

مع اندلاع الأزمة في أوكرانيا وبدء العملية العسكرية الروسية الخاصة في هذا البلد في شباط 2022، كان متوقعا أن يعاد طرح قضية صربيا على بساط البحث من قبل الروس.

البعد التاريخي للعلاقات الصربية الروسية

منذ بداية القرن التاسع عشر شكلت صربيا الحليف الأقرب لروسيا في منطقة البلقان. فلقد كانت روسيا المنتصرة على الدولة العثمانية في الحروب التي وضعتهما في مواجهة بعضهما البعض بين عامي 1768 و1774، ثم في أواخر القرن الثامن عشر، قد وضعت نصب أعينها مد نفوذها إلى منطقة البلقان تحت شعار الوحدة السلافية الأورثوذوكسية. هذا ما جعلها تدعم ثورة الصرب بين عامي 1804 و1813 التي نجحت في استقلال البلاد لمدة عقد من الزمن قبل أن يعود العثمانيون لبسط سيطرتهم عليها، لكن مع اعتراف بحقها بحكم ذاتي موسع. وقد دعم الروس الصرب بعد ذلك في انتفاضتهم في العام 1862 والتي أفضت إلى انسحاب كامل الجيوش العثمانية من صربيا في العام 1867. وفي العام 1876 شنت روسيا حربا جديدة ضد الدولة العثمانية انتصرت فيها ونجحت بدعم استقلال صربيا الكامل عن الدولة العثمانية، إضافة إلى استقلال رومانيا ونيل بلغاريا حكماً ذاتياً موسعاً عن الدولة العثمانية تحول في العام 1909 الى استقلال تام عن السلطنة.

وخلال القرن العشرين كان هنالك ترابط عضوي بين روسيا وصربيا التي كانت تعتبر الحليف الأقرب لموسكو في منطقة البلقان وأوروبا. فلقد دعمت روسيا مطالب صربيا القومية بتوحيدها مع البوسنة والهرسك وكرواتيا وسلوفينيا والجبل الأسود، تحت مسمى اتحاد سلاف الجنوب أو يوغوسلافيا، وهو ما سيتحقق بعد انتهاء الحرب العالمية الأولى. والجدير ذكره أن القيصر الروسي نيقولا الثاني كان قد قرر دخول الحرب العالمية الأولى في صيف العام 1914 رداً على اجتياح النمسا المجر لصربيا بذريعة مسؤوليتها عن اغتيال ولي عهد النمسا فرانس فرديناند وزوجته. وبعد الحرب العالمية الأولى شكلت صربيا النواة الصلبة للاتحاد اليوغوسلافي وكانت على علاقة طيبة بكل من الاتحاد السوفياتي من جهة وفرنسا وبريطانيا من جهة أخرى. وبعد الحرب العالمية الثانية، وعلى الرغم من محاولات الزعيم اليوغوسلافي جوزف بروز تيتو (1892-1980) أخذ مسافة مع الاتحاد السوفياتي، إلا أن يوغوسلافيا الشيوعية كانت تعتبر جزءاً من النطاق الجيوسياسي السوفياتي.

استهداف واشنطن لروسيا عبر صربيا

هذا الترابط العضوي على الصعيد الجيوسياسي هو الذي جعل مصير يوغوسلافيا محتوماً بعد نهاية الحرب الباردة في العام 1989 وانهيار الاتحاد السوفياتي في العام 1991. فبعد أسابيع قليلة على تفكيك الاتحاد السوفياتي ستبدأ الولايات المتحدة ومعها حلفاؤها الغربيون بدعم حركات انفصالية في سلوفينيا وكرواتيا ومقدونيا ثم البوسنة والهرسك والتي ستتحول إلى حرب أهلية ستحصل فيها أبشع المجازر خلال القرن العشرين. لم يقف الغرب عند هذا الحد، بل هو سعى لتقسيم صربيا نفسها عبر دعم حركة انفصالية في إقليم كوسوفو. وعندما وقفت صربيا ضد هذا المخطط وحاولت حماية وحدتها، وجهت لها الولايات المتحدة وحلف الناتو ضربة عسكرية قاسية في العام 1999 جعلت الإقليم، الذي أصبح ذو غالبية البانية نتيجة الهجرة من ألبانيا المجاورة، ذا حكم ذاتي موسع يرقى إلى الاستقلال الكامل.

لقد استفادت الولايات المتحدة من حالة الضياع التي عانت منها روسيا بعد هزيمتها في الحرب الباردة (بحكم انها الوريثة للاتحاد السوفياتي) من حالة ضياع فاقمتها القيادة الضعيفة المتمثلة ببوريس يلتسين. وقد تمكنت الولايات المتحدة خلال هذه الفترة من بسط نفوذها على دول كانت تدور سابقا في فلك الاتحاد السوفياتي مثل تشيكوسلوفاكيا التي قسمت الى تشيكيا وسلوفاكيا، وبولندة وهنغاريا وسلوفينيا وكرواتيا وبلغاريا ورومانيا التي انضمت الى حلف شمال الأطلسي الناتو. وقد شكل ذلك جزءاً من عملية التوسع شرقا في عملية موضعة غربية تمهيداً للضرب في العمق الروسي. وكانت آخر مرحلة من مراحل الموضعة هذه هو في الانقلاب الذي دعمته واشنطن في أوكرانيا في العام 2014 وسعيها لتحويل هذا البلد الى قاعدة للضرب في العمق الروسي.

صربيا توقظ الدب الروسي

هذا الترابط الجيوسياسي بين روسيا وصربيا هو الذي سيجعل من هذه الأخيرة العامل الأساس في استيقاظ الدولة العميقة في روسيا والمتمثلة بالمخابرات والبيروقراطية والجيش. فما إن انتهت الحملة العسكرية الأطلسية على صربيا في حزيران يونيو 1999 حتى تحركت الدولة العميقة الروسية ضد يلتسين الذي تم لومه على التآكل الخطير في عناصر الأمن القومي الروسي. فبعد أسابيع قليلة على انتهاء الضربة تم تعيين قائد جهاز الأمن الفدرالي الروسي فلاديمير بوتين رئيساً للوزراء. وبعد أشهر قليلة سيصبح ضابط الاستخبارات السابق الذي عمل في برلين خلال الحرب الباردة رئيساً لروسيا لتبدأ بعهده عملية ترميم عناصر الأمن القومي الروسي في القوقاز وشرق أوروبا. وبعد عقد ونصف من الزمن كانت روسيا قد أرسلت قواتها إلى سورية في تجديد لسعيها للوصول إلى المياه الدافئة وفك الطوق الذي كانت الولايات المتحدة تحاول فرضه عليها.

وبالانتقال إلى أوكرانيا، فلقد كانت العملية العسكرية الروسية في هذا البلد هي لإجهاض المحاولة الأميركية في تحويله إلى قاعدة لاستهداف العمق الروسي. وفي إطار الدفاع عن النفس فإن الرد الروسي على المحاولة الغربية بالضرب في العمق الروسي كانت بالضرب في العمق الأوروبي الغربي عبر دعم حليفتها صربيا وذلك لمد نفوذها عبرها إلى البلقان ومنها إلى وسط أوروبا. وقد جاءت الفرصة في دعم احتجاجات صربية على خلفية سيطرة السلطات الألبانية على مقار ومراكز انتخابية في شمال كوسوفو ومنطقة ميتوهيا ما دفع بصربيا للإعلان عن التعبئة العامة للجيش تحسباً لتطور مسار الأحداث نحو احتمال المواجهة.

[caption id="attachment_1605" align="aligncenter" width="580"] مقر الحكومة الصربية في بلغراد (الموقع الرسمي على الانترنت)[/caption]

تطور الاحداث، إلى أين؟

هذه التطورات جعلت الولايات المتحدة مع حلفائها الغربيين يخشون من انتقال ساحة الصراع مع روسيا إلى قلب أوروبا، ما جعلها تتدخل لدى السلطات الألبانية في الإقليم لمنعها من قمع المحتجين. كذلك سارعت الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي إلى إصدار بيان مشترك قدما فيه ضمانات للصرب بعدم توقيفهم أو إخضاعهم للمحاكمة بسبب مشاركتهم في الاحتجاجات الأخيرة. وأعربا عن تفهمهما لمطالب الصرب في الإقليم. شكل هذا محاولة من قبل واشنطن وبروكسيل لمنع الصرب من التحول كلياً إلى روسيا. وقد رد الطرف الصربي بالإعلان عن قبوله بتفكيك الحواجز التي كان قد أقامها في شمال كوسوفو وميتوهيا ميردار لقاء إخلاء السلطات الألبانية للمباني التي سيطرت عليها ما اعتبر نصراً سياسياً للصرب من جهة ونجاحاً اميركياً في احتواء الأزمة من جهة أخرى. ولقد شكر الرئيس الصربي الكسندر فوتشيتش روسيا على الدعم السياسي الذي قدمته لبلاده ما مكنها من تحقيق هذا النصر السياسي.

لكن يبدو أن قدرة الغرب على احتواء الأمور في كوسوفو لن تكون طويلة، إذ أن أزمة إقليم كوسوفو متشعبة ومعقدة ولها أبعاد جيوسياسية تتجاوز البعد المحلي. والأرجح ألا ترضى موسكو بالتسوية التي تم التوصل اليها بين الغرب وبلغراد بل إن الأمور مرشحة للتصعيد. وأهم مؤشر على ذلك هو التصريح الذي أطلقته المتحدثة باسم الخارجية الروسية ماريا زاخاروفا والذي أعلنت فيه أن أي تسوية بين بلغراد وبريشتينا (عاصمة إقليم كوسوفو) بضمانات غربية لن يكتب لها الاستدامة، في تلميح إلى أن أي حل لا تكون موسكو جزءاً منه لن يستمر طويلاً.

ويشكل هذا مؤشراً على أن روسيا لن تتوقف عن دعم حليفتها صربيا وطموحاتها في استعادة الأقاليم التي خسرتها في زمن الضعف الروسي، ما يؤشر إلى أن الأوضاع آيلة للتصعيد وصولاً إلى المواجهة في البلقان ما يهدد بنسف الأمن الأوروبي برمته. وهنا تكون روسيا قد نجحت في الرد على محاولات الضرب في العمق الروسي بالضرب في العمق الأوروبي وصولاً إلى تهديد الوحدة الأوروبية برمتها.

جمال واكيم

أستاذ تاريخ العلاقات الدولية في الجامعة اللبنانية