نحت إسرائيل في ظل حكم بنيامين نتنياهو المتواصل منذ 2009 نحو اليمين واليمين المتطرّف، الذي يعتبر المستوطنين في الضفة الغربية البالغ عددهم 700 ألفاً قاعدة انتخابية مهمة تؤمّن له الاستمرار في السلطة.

الاحتجاجات التي نفّذها اليمين المتطرّف أمام معتقل "سدي تيمان" وقاعدة بيت ليد، في وقت سابق من هذا الأسبوع، رداً على توقيف الشرطة العسكرية التابعة للجيش تسعة من المحققين في المعتقل، لاستجوابهم في جريمة اغتصاب أسير فلسطيني من غزة خلال التحقيق معه، عكست حجم النفوذ المتنامي لهذا التيار الذي يحظى بدعم نتنياهو، ويمثّله وزير الأمن القومي إيتامار بن غفير ووزير المال بتسلئيل سموتريتش.

قدوم أنصار بن غفير وسموتريتش مع نواب في الكنيست إلى المعتقل والقاعدة العسكرية، كان بهدف منع الشرطة العسكرية من توقيف المحققين التسعة في "سدي تيمان"، وإظهار دعمهم للأساليب الوحشية المتّبعة في التحقيق مع مئات الأسرى الذين نقلهم الجيش الإسرائيلي من غزة. وبعدما علم المحتجّون أنّ الشرطة العسكرية نقلت المحققين المتهمين إلى قاعدة بيت ليد، سارعوا إلى القاعدة محاولين اقتحامها لإطلاق المحققين، بينما كان قسم آخر من المحتجين يحاول اقتحام المعتقل والوصول إلى الأسرى الفلسطينيين للتنكيل بهم.

هذه الأحداث أرغمت الجيش الإسرائيلي على إرسال تعزيزات من غزة والضفة الغربية إلى المكان لردع المحتجين، وحضور رئيس الأركان الجنرال هرتسي هاليفي من الجبهة الشمالية إلى قاعدة بيت ليد.

انتهز اليمين المتطرف إقدام الشرطة العسكرية على توقيف المحققين في المعتقل، كي يتهم الدولة بأنّها تعتقل جنودها في زمن الحرب، في حين أنّ الجيش تدخّل في القضية بعد كشف صحيفة "هآرتس" الإسرائيلية عن أن ما لا يقلّ عن 48 معتقلاً فلسطينياً توفوا تحت التعذيب في "سدي تيمان"، الأمر الذي قد يحمل المحكمة الجنائية الدولية على توجيه الاتهامات لعسكريين إسرائيليين بتهمة قتل الأسرى. أي أنّ الشرطة العسكرية تدخّلت لتلميع صورة إسرائيل كدولة قانون، وأنّ محاكمها تحقّق في وقائع بهذه الخطورة، وتالياً لا حاجة للتدخل من المحاكم الدولية.

حتّى عام 2022، كان اليمين المتطرف على هامش الحياة السياسية في إسرائيل، أمّا بعد أن أشركهم نتنياهو في ائتلافه الحكومي عبر بن غفير زعيم حزب "القوة اليهودية" وسموتريتش زعيم حزب "الصهيونية الدينية"، بات هذا التيار جزءاً من الدولة.

وبعد نشوب حرب غزة منذ عشرة أشهر ومطالبة أهالي الأسرى الإسرائيليين لدى حركة "حماس" والمعارضة باستقالة نتنياهو باعتباره يتحمّل المسؤولية عن الإخفاق الكبير في 7 تشرين الأول، لم يعد أمام الأخير سوى الاعتماد على بن غفير وسموتريتش للحفاظ على ائتلافه الحكومي وتالياً على بقائه السياسي، وكي لا يتعرض للمساءلة عن الإخفاق وعن قضايا فساد متّهم بها أصلاً قبل الحرب.

وأحد الأسباب التي تجعل نتنياهو يماطل في القبول بوقف النار في غزة، هو تهديد بن غفير وسموتريتش لنتنياهو بالانسحاب من الحكومة في حال وافق على صيغة مهما كانت لوقف الحرب.

حاجة نتنياهو إلى الوزيرين المتشددين، جعلته يسلّم صلاحيات واسعة في الضفة الغربية لبن غفير، الذي يتباهى بتوزيع السلاح على المستوطنين وبخفض حصص الطعام التي تقدّم للأسرى الفلسطينيين في المعتقلات الإسرائيلية وبالتضييق عليهم في نواحٍ كثيرة أخرى.

وسموتريتش يعمد إلى حجز أموال الضرائب التي تجبيها إسرائيل من المناطق المحتلة في الضفة لمصلحة السلطة الفلسطينية، عقاباً على هجوم "حماس" على غلاف غزة.

وانفلات المستوطنين في الضفة وحرقهم لمنازل الفلسطينيين ومحاصيلهم الزراعية ازداد بوتيرة كبيرة منذ 7 تشرين الأول، وقُتل الكثير من الفلسطينيين برصاص المستوطنين. ودفع ذلك الولايات المتحدة ودول أوروبية إلى فرض عقوبات على بعض مسؤولي المستوطنين.

وهكذا تحول نتنياهو إلى رهينة في يد بن غفير وسموتريتش. وما جرى في الأيام الأخيرة في معتقل "سدي تيمان" وقاعدة بيت ليد، يدلّ على أنّ اليمين المتطرّف يريد السيطرة على القرار داخل الجيش، على غرار ما حصل مع الشرطة.

الغليان والانقسامات الإسرائيلية الداخلية سابقة على حرب غزة...

ويُضاف إلى هذه الظاهرة، رفض الأحزاب الدينية المتدينة من الحريديم مثل "شاس" لليهود الشرقيين المتشددين و"يهودوت هاتوراه" لليهود الغربيين المتشددين، الخدمة الإلزامية في مقابل إصرار وزير الدفاع يوآف غالانت والتيار الوسطي على أنّ إسرائيل التي تخوض أطول حروبها، باتت في حاجة إلى مزيد من الجنود، وأن الواقع يفترض التخلّي عن اعفاء المنسبين إلى المدارس الدينية من التجنيد.

الغليان والانقسامات الإسرائيلية الداخلية سابقة على حرب غزة، منذ سعى نتنياهو، بدعم من المتطرّفين في حكومته، إلى تعديلات قضائية تكبح جماح المحكمة العليا، بحيث تصير القوانين التي يقرّها الكنيست هي السارية في مواجهة قرارات المحكمة، بخلاف ما كان جارياً منذ تأسيس إسرائيل عام 1948.

حرب غزة غذّت الإنقسامات حتى داخل الأجهزة الأمنية. الشرطة مرجعيتها غير مرجعية الجيش. والمستوطنون في طريقهم ليكونوا دولة داخل الدولة. نتنياهو ووزراء اليمين المتطرف يعتبرون أنّ الجيش الذي أخفق في غلاف غزة أمام هجوم "حماس" في 7 تشرين الأول، لا يحق له أن يفرض رأيه على المستوى السياسي. وأبلغ دليل على ذلك، تجاهل الحكومة لتوصيات القادة العسكريين بضرورة وقف النار في غزة والمضي في صفقة التبادل مع "حماس".

هذه المخاضات التي تعيشها إسرائيل، دفعت المؤرخ الإسرائيلي المشهور بيني موريس إلى القول :"للمرة الأولى منذ التأسيس يكون مستقبل إسرائيل محلّ تساؤل".

استنتاج بهذه الخطورة، مبني على وقائع الفوضى التي تغرق فيها إسرائيل يومياً، وعلى تمكّن المستوطنين من نزع هالة الوقار عن الجيش، فلم تعد مقولة أنّ إسرائيل هي عبارة عن جيش أنشئت له دولة، هي السارية، وإنّما السياسيون اليوم يتقدّمون على الجيش ويتمرّدون على توصياته.