تتنوّع الأفكار والمقترحات للتخفيف من حدّة الانهيار قبل "نزول الوحي" والشروع في الإصلاحات، ويبقى الهاجس واحداً: العودة إلى التسليفات. فالقروض تساهم في زيادة العرض النقدي من الناحية الاقتصادية الكلّية، وتؤدّي بالتالي إلى خلق "مضاعف الاستثمار". والزيادة في الاستثمار تدفع إلى زيادة أكبر في الدخل القومي. فتولدُ فرص العمل ويرتفع إنفاق المستهلكين، وينمو الاقتصاد... هذه السلسلة المترابطة الحلقات لنموّ الاقتصاديات، "فرطت" في لبنان في العام 2019، وعجزت كلّ المحاولات عن لملمتها ووصل ما انقطع.

في الوقت الذي لم تعد قيمة القروض المصرفية للقطاع الخاص تتجاوز 6.8 مليار دولار حتى أيار 2024، بحسب أرقام مصرف لبنان، فإنّ المطلوب رفعها إلى 21 مليار دولار، أقلّه. يرى المصرفي رياض عبجي أنّ "تمويل المصارف للقطاع الخاص في كلّ دول العالم يمثّل قيمة الناتج المحلي. هكذا كان الأمر في لبنان، وهكذا يجب أن يكون لنستعيد الناتج المحلي الإجمالي الذي كان قائماً قبل الأزمة، أو حتى مضاعفته إلى 100 مليار دولار. ذلك أنّ مشكلة لبنان الاقتصادية ليست في الفجوة النقدية المقدّرة بأكثر من 72 مليار دولار، ولا في فقدان الملاءة المالية، إنّما في تقلّص حجم الاقتصاد من 50 مليار دولار إلى 20 ملياراً. والعودة إلى الناتج السابق لا تتحقّق إلّا بعودة السيولة إلى الاقتصاد". وهكذا، "بعودة السيولة، والسيولة وحدها، تتحقّق مصلحة الاقتصاد وتعمّ المنافع المجتمع، ويبدأ لبنان الخروج من أزمته"، قال عبجي بالفم الملآن في لقاء تشاركي حول "آلية إحياء التسليفات"، استضافه المجلس الاقتصادي الاجتماعي والبيئي في وسط بيروت.

منصة للإقراض والاقتراض

تدفّق السيولة إلى الاقتصاد في ظل إقصاء لبنان نفسه عن القروض الخارجية، وتعطّل القطاع المصرفي داخلياً، يمكن أن يتم من وجهة نظر عبجي من خلال "التمويل المباشر بين الأفراد". هذه النظرية المعروفة حديثاً بـ Peer-to-peer lending (P2P) كان يستعملها "أجدادنا" عند حاجتهم إلى رلمال لتمويل الاستهلاك أو الاستثمار. وذلك قبل أن يطوّرها علم الاقتصاد ويعطيها اسماً تقنياً، وتصبح رائجة أوروبياً بحجم يصل إلى 100 مليار دولار. وعليه، يقترح عبجي استيلاد منصّة تركز على ربط الأعضاء (المقترضين والمقرضين) الذين لديهم اهتمامات مالية متشابهة بعضهم ببعض، وهي بمنزلة "أداة تمرير معلومات" من فريق أ (الدائن) إلى فريق ب (المقترض). وهذه طريقة مباشرة كلفتها أقلّ وأسهل وأكثر أماناً. بهذا نكون وجدنا حلّاً جزئياً لمشكلة التمويل". وماذا عن دور المصارف في هذه الآلية؟ يجيب عبجي أنّ "دورها مهم جداً، فالأموال ستنتقل من شخص أو جهة إلى أخرى عبر حساب مصرفي وما يتبع ذلك من أعمال إدارية ورقابية". مشدّداً على "أهمية الأخلاق في التعاطي بين الجميع لأنّها الأساس التي يجب أن نبني عليها لبنان. إذ ليست الثقة وحدها الأساس في التعاملات، إنّما الأخلاقيات أيضاً. وإنّ أبرز أركان المنصّة التي تدعم تجربة التوافق، وتدعم نجاحها، هو السلوك الأخلاقي وخصوصية البيانات المتبادلة ودقتها، والبنية التحتية التكنولوجية". وأضاف عبجي"نحن في مرحلة التأسيس ونضع اللمسات الأخيرة على المنصة قبل البدء بالعمل".

حلّ أزمة الودائع أولاً

إجماع المشاركين في اللقاء على أهمية العودة إلى الإقراض والاقتراض، قابله دفق من الأسئلة التقنية والقانونية والمبدئية. وإن كان ممكناً تذليل العقبات التطبيقية على منصّة الاقتراض من خلال الجمع بين أطراف المصلحة وحماية المقرضين، فليس ممكناً الوصول إلى النمو الاقتصادي المزعوم، ما لم "تحلّ مشكلة الودائع"، برأي الخبير الاقتصادي والمصرفي نيكولا شيخاني. ففي الولايات المتحدة الأميركية على سبيل الذكر لا الحصر، عندما برزت أزمة مصرفية قبل نحو عام، قال الرئيس الأميركي جو بايدن إنّ الودائع في SVB Bank نفدت، فانهار الاقتصاد الأميركي بنسبة 20 في المئة في اللحظة نفسها. ولم يتمكّنوا من السيطرة على الوضع، و"فرملة" الانهيار إلّا بعدما صرح الرئيس بايدن بأنّ الدولة ستحمي المودعين وليس المساهمين المصرفيين. ينطلق شيخاني من هذا المثل ليقول إن "الودائع هي الركيزة"، وما لم تتمّ حمايتها بموجب خطّة واضحة وصريحة، فإنّ الثقة لن تستعاد والنموّ لن يتحقّق. وحمايتها هي "مسؤولية مشتركة بين الدولة ومصرف لبنان والمصارف، ولو أنّ حجة المصارف عدم قدرتها على إعادة الودائع "كونها موجودة في مصرف لبنان ساقطة من الناحيتين التقنية والعلمية"، برأي شيخاني. "ولا يمكن التذرّع بهر، خصوصاً أنّ العلاقة التعاقدية كانت بين المودع والمصارف التجارية وليست بين المودع ومصرف لبنان. أمّا عن التحجّج بأنّ الأزمة نظامية، وهي ترتّب المسؤولية الأساسية على الدولة وأجهزتها التنفيذية، فيقول شيخاني إنّ "تعريف البنك الدولي للأزمة النظامية هو أن تكون ناشئة عن عامل خارجي، يؤثّر في سيولة المصارف وارتفاع مستويات التضخّم. وهذا ما لم يحصل في لبنان، إنّما كان قراراً فردياً من المصارف قضى بتوظيف كلّ أموالها في المصرف المركزي للاستفادة من الفوائد. فوضعت 82 مليار دولار في هذا المصرف. وذلك على الرغم من وجود تعميم يحمل الرقم 311 يمنع أيّ مؤسسة مالية من وضع أكثر من 20 في المئة من رأسمالها في مكان واحد. وعلى الرّغم أيضاً من اطلاع المصارف بشكل دوري على الموازنة نصف الشهرية للمصرف المركزي التي تظهر بوضوح وضعه المالي. وقد اشترت المصارف سندات دين أجنبية بقيمة 15 مليار دولار، تمثّل 75 في المئة من رأسمالها. يترافق ذلك مع عجز الموازنة وميزان المدفوعات. وعليه، لا يمكن القول إنّ الأزمة نظامية، إنّما مفتعلة، ونتيجتها تحوّلت إلى نظامية على اثر هذه المخاطر. وعليه، هناك مسؤوليات يجب أن يتحمّلها مصرف لبنان من خلال تطبيق القانونين 2/67 و22/67 اللذين طبّقهما على بعض المصارف، وينبغي له أن يطبّقهما على بقيّتها، من أجل إعادة هيكلة القطاع المصرفي، وبالتالي إيجاد الحلّ لأزمة الودائع".

الأمل موجود

في إطار متصل، اعتبر رئيس المجلس الاقتصادي والاجتماعي والبيئي شارل عربيد أنّ التأخّر في اعتماد الحلول الناجعة، "لا يعني أنّه لا يمكننا إعادة بناء الثقة. هناك طرق عدةّ في هذا المجال، ولكن على أصحاب العلاقة أن يتحرّكوا، وعلى المسؤول أن يتحّمل مسؤوليته ويتخذ القرارات الموجبة. وهذا أمر ضروري. ويجب أن يكون بعيداً عن مشكلاتنا السياسية إلّا إذا كان الأمر مطلوباً أن تبقى هذه الأزمة كما هي إلى حين أن يفرجها الله علينا".

قبل الإقراض من نظير إلى نظير، كان هناك "صندوق أوكسجين" لدعم القطاع الإنتاجي، وعشرات المبادرات لإنشاء صناديق تمويلية للمشاريع الصغيرة والمتوسطة، وكلّها لم تتسبب في النموّ المنشود. وبغضّ النظر عن أحجام المبادرات، فإنّ الأساس يبقى أولاً وأخيراً في الإصلاحات.