الباليه المعاصر هو نوع من الرقص الذي يجمع تقنيات الباليه الكلاسيكي وتعبير الحركة الحديثة. بدأ في النصف الأول من القرن العشرين، إذ سعى الراقصون والمصممون إلى الابتعاد عن القواعد الصارمة للباليه الكلاسيكي والبحث عن وسائل جديدة للتعبير الفني. ويمكن اعتبار هذا النوع من الرقص تطوّراً حديثاً للباليه الكلاسيكي.

وللباليه المعاصر مزايا عديدة، أبرزها التعبير الحرّ، إذ يمنح الباليه المعاصر الراقصين الحرية في التعبير عن مشاعرهم وأفكارهم بطريقة أكثر عفوية وطبيعية مقارنة بالباليه الكلاسيكي. كما يجمع تقنيات الباليه الكلاسيكي والرقص الحديث، وهذا ما يُنشئ تنوعًا فنيًا وغنيًا، ويشجع على الابتكار، متيحًا للمصممين استكشاف حركات جديدة، ويسعى إلى كسر الحواجز بين الراقصين والجمهور، سعيًا إلى مزيد من التفاعل. 

جمهور الباليه المعاصر

يستهدف الباليه المعاصر جمهورًا واسعًا يشمل عشاق الفن والرقص ومحبّي التجديد والابتكار. ويجذب مختلف الأعمار والخلفيات الثقافية، إذ يقدم عروضًا تفاعلية تلبّي تطلّعات الباحثين عن تجربة فنية جديدة ومثيرة.

وفي لبنان، تتنوّع المدارس التي تدرّب على الباليه الكلاسيكي والمعاصر، إلاّ أنّ هذا النوع من الرقص لا يزال خجولاً. ويعود تأسيس أوّل مدرسة باليه في لبنان إلى العام 1964 على يد جورجيت جبارة بموجب مرسوم جمهوري موقّع من رئيس الجمهورية الراحل شارل حلو ورئيس الحكومة الراحل رشيد كرامي. ومنذ ذلك التاريخ، أخذ هذا الرقص ينمو في المجتمع اللبناني محصورًا في أوساط الطبقة المخملية، وفي المدارس الخاصة.

ومن فرق الرقص التي وصلت إلى العالمية، يمكن التوقف عند تجربة فرقة كركلا.

أمّا الموازنة المخصصة لوزارة الثقافة، فهي ضئيلة، وبالتالي ترعى الوزارة العروض الفنية معنويًا من دون أن تتكفل بالمصاريف.

وعلى الرغم من هذا الواقع الصعب الذي يعانيه رقص الباليه، تبرز محاولات فردية لأشخاص يحاولون قدر المستطاع إحياء هذا النوع من الفنّ وإبقاءه على قيد الحياة. ومنهم عناصر فرقة بيروت للباليه المعاصر، التي فتحت أبواب مسرح ميترو المدينة، على مدى 3 ليال، من 17 إلى 19 تمّوز الجاري، مقدمةً أحدث إنتاجاتها المسرحية "أسود".

يتميز "أسود" بأداء آسر لستّة راقصين موهوبين، على أنغام موسيقى أصلية من تأليف الفنان الشهير ماكيمكوك. حضر موقع "الصفا نيوز" ليلة العرض الأوّل. وقبل أن تنطلق المسرحية الراقصة عُرض فيلمان: "صنع الحركة"، وهو وثائقي يصور رحلة طاقم العمل مع الباليه المعاصر في كوبا، من إخراج نويل بول، و"واحد للحالمين"، وهو فيلم راقص مثير للذكريات من إخراج المديرة الفنية جانا يونس، وتصميم الرقصات لجينس بيريجارد.

"الصفا نيوز" التقى جنى يونس، مؤسسة مشاركة ومديرة فنية مشاركة لباليه بيروت المعاصر، للوقوف على تاريخ الفرقة والتحديات التي واجهتها والرسالة التي تبعث بها عبر المسرحية. قالت يونس "في العام 2018، أسست الفرقة وشريكي يانس دياغو، الذي جاء إلى لبنان كمصمم رقصات، وقررنا أن نجمع بين عملي كراقصة ومتخصصة في السينما، فكتبتُ فيلماً وعرضته عليه، ومن ثم قررنا أن نخلق هذا النمط من الأفلام والعروض في لبنان. وبعد عام تواصلنا مع شريكنا الثالث وفا بودي، وجمعنا عدداً من الراقصين وأسّسنا فرقة، وقدمنا أوّل عرض لنا وكبرت مشاريعنا، وارتفع عدد الأعضاء، وبدأنا نأخذ عدّة مشاريع حول العالم، وعملنا مع شركات من الصين إلى كوبا".

ومن التحديات التي واجهت الفرقة تذكر يونس أنّه "ليس هنالك مدارس تعلّم هذا النوع من الرقص، ونتلقى اتصالات كثيرة من أشخاص يرغبون في التعلّم، ولا أبالغ إذا قلت إنّ عددهم أكبر من عدد الذين يرغبون في مشاهدة الرقص".

وتعرّف الباليه المعاصر بأنّه "نوع من الرقص مبني على أسس كلاسيكية، أدخل عليها بعد التعديلات لتواكب العصر، وتسمح للجسد بالتعبير عن اللحظة الآنية. والجمهور اللبناني لم يعتد، بعد، هذا النوع من الرقص، مع أنّه ينال إعجابه على الرّغم من عدم فهمه للرسالة الكامنة وراء العرض. هدفنا تمرين عين المشاهد على هذا النوع من العروض ليتقبّله ويفهمه".

والرسالة وراء "أسود" هي "الخروج من الظلام إلى النور، برسالة أمل، نطرح من خلالها العلاقة بين النور والظلام اللذين يحكمان حياتنا وعلاقاتنا"، بحسب يونس. 

التحديات التي يواجهها الباليه المعاصر

وإلى ذلك، يواجه الباليه المعاصر تحدّيات كبيرة في لبنان، منها:

التقاليد الراسخة: يواجه الباليه المعاصر تحدّي قبول الجمهور المعتاد على الباليه الكلاسيكي والتقاليد الفنية التقليدية.

الدعم المالي: يحتاج الباليه المعاصر إلى تمويل مستمر لدعم الإنتاجات والعروض، وقد يكون الحصول على هذا الدعم تحديًا في بعض الأحيان.

التدريب والتطوير: يتطلب الباليه المعاصر تدريبًا متقنًا ومكثفًا للراقصين لتعلّم تقنيات متنوعة وجديدة.

الترويج والانتشار: قد يكون من الصعب الترويج للباليه المعاصر في بعض المناطق التي تفتقر إلى الوعي بهذا النوع من الفن.

كيفية مواجهة التحديات

ويمكن مواجهة هذه التحديات عبر:

1- التوعية والتعليم: تعزيز الوعي بفوائد الباليه المعاصر وقيمته الفنية من خلال ورش العمل والدروس التعليمية.

2- الدعم الحكومي والمؤسساتي: توفير الدعم المالي من الحكومات والمؤسسات الفنية والثقافية لدعم العروض والإنتاجات الفنية.

3- التسويق والترويج: استخدام وسائل الإعلام الحديثة ومنصات التواصل الاجتماعي.

ويمثل الباليه المعاصر في لبنان مساحة فريدة للإبداع والتعبير الفني تجمع بين التراث الثقافي المحلّي والابتكار العالمي. تمكّن هذا الفن حتى الآن من تجاوز التحديات الاقتصادية والاجتماعية ليصبح جزءاً لا يتجزأ من المشهد الثقافي اللبناني. بفضل جهود الفنانين والمؤسسات الثقافية، يستمر الباليه المعاصر في النمو والازدهار، مؤكّدًا على قدرة الفن على توحيد الناس وإلهامهم، مهما كانت الظروف. تبقى آفاق الباليه المعاصر في لبنان واعدة بفرص جديدة للتطور والانتشار، مما يعزز مكانة لبنان كمنارة للفنون في المنطقة.