رغم المواقف الإيجابية التي أبداها الرئيس التركي رجب طيب إردوغان تجاه سوريا ، على طريق إعادة الثقة المتبادلة معها، تمهيدًا لإعادة تفعيل العلاقات الثنائية بين دمشق وأنقرة، لا تزال تتطلّب خطوات جدية وعملانية من الأخيرة، كي تعود العلاقة بينهما إلى ما كانت عليه قبل منتصف آذار 2011، تاريخ بدء الحرب الكونية على سوريا، التي كانت تركيا أكثر الدول إسهامًا فيها، بهدف تغيير وجه المنطقة بأسرها. تحت عنوان " ثورات الربيع العربي"، وهو مخطّط غربي لإيصال تنظيم "الإخوان المسلمين" ومتفرّعاته إلى الحكم في بعض الدول العربية، وفقًا لرؤية المحور الغربي وبما يخدم مصالحه في المنطقة، وحظي هذا المشروع برعاية مباشرةٍ من الولايات المتحدة وحلفائها في الاتحاد الأوروبي وبعض العرب وسواهم، ودعمهم بالسلاح والمال والإعلام والموارد البشرية، والتغطية السياسية أيضًا، أي من خلال محاولة استصدار قرارات دولية في مجلس الأمن، تدين دمشق وكلّ من وقف بمواجهة المخطط المذكور، غير أنّ واشنطن لاقت مقاومةً روسيةً- صينيةً مشتركةً في "المجلس"، بعدما استخدم هذا الثنائي حقّ النقض "الفيتو"، لإسقاط القرارات الأميركية- الغربية.
وكانت أنقرة وقتذاك، تشكّل المرجعية السياسية والدينية أيضًا "للإخوان" ، بعد وصول حزب "العدالة والتنمية" إلى الحكم فيها، خصوصًا بعد ترؤس إردوغان للحكومة التركية في العام 2003، إلى حين انتخابه رئيسًا للبلاد في العام 2014، انطلاقاً من "خلفية إسلامية".
لم يعد أمام إردوغان إلّا أن يعود عن سياسته السابقة، وأن يبادر إيجابًا تجاه دمشق، لتعزيز الثقة معها، وأن يمضي قدمًا على طريق استعادة العلاقات الثنائية السورية- التركية.
وعلى أرض الواقع، فقد تمدّد "المشروع الإخواني" في الدول العربية، إثر اندلاع "ثورات الربيع"، ووصول "الإخوان" إلى الحكم في مصر وتونس، وشاركوا بقوةٍ في تغيير حكم علي عبد الله صالح في اليمن، الذي اعتبرهم بدوره "سبب النكبة في العام 2011". كذلك فقد نظّموا التحرّكات الشعبية في الأردن في الأشهر الأولى من هذا "الربيع"، في محاولةٍ لتعزيز حضورهم في السلطة أو "أكثر من ذلك" في المملكة الهاشمية، لو تسنّى لهم ذلك، مستمدين القوة من وجود "إخوانهم" في حركة "حماس" في قطاع غزة في الشطر الثاني من الحدود. غير أنّ هذا المشروع واجه معوقيْن أساسيين أدّيا إلى سقوطه، أولًا اصطدامه بالموقف السوري، بعدما قرّرت القيادة في دمشق وحلفاؤها مواجهة هذا المخطّط، ودفعت أثمانًا كبيرةً في سبيل ذلك، (عشرات آلاف الضحايا، وتدمير مناطق بأسرها...)، وكان بداية التحوّل لمصلحة دمشق بعد استعادة الجيش السوري منطقة بابا عمر في آذار 2013، ثم مدينة القصير في أيار من العام عينه، لما لها من أهميةٍ على المستوى الإستراتيجي، تحديدًا لمنع تقسيم البلاد السورية. وبذلك بدأ يتصدّع "حكم الإخوان"، فلم يصمد بعدها الرئيس المصري المخلوع محمد مرسي أكثر من شهر، بعد "واقعة القصير"، فسقط حكمه إثر اندلاع الثورة التي خاضها وزير الدفاع المصري المشير عبد الفتاح السيسي في أواخر حزيران وبداية تموز من العام نفسه أيضًا، ثم أودع مرسي السجن حتّى وفاته في العام 2019. وتبع تطهير القصير، ثم مدينة حلب في العام 2016 من المجموعات التكفيرية المسلّحة، سقوط "أحجار الدومينو"، في المنطقة العربية، من خلال سقوط حكم "حزب النهضة الإخواني" في تونس في العام 2021، وسبق ذلك انكفاء دور "الإخوان" في اليمن، كذلك تراجع شعبية "العدالة والتنمية" نفسه في الانتخابات الرئاسية 2023 والبلدية 2024 التي أجريت أخيرًا في تركيا "قلعة الإخوان".
أمّا العامل الثاني الذي أسهم في نهاية هذا "المشروع الإسلاموي"، فهو تلمّس المملكة العربية السعودية حقيقة خطر "الربيع العربي"، الذي حاول تحجيم دورها في المنطقة، بعد سقوط حكم حلفائها، وفي مقدمهم الرئيسان الراحلان حسني مبارك في مصر وزين العابدين بن علي في تونس، لذا دعمت "ثورة السيسي" في مصر.
بناء على ما تقدّم، لم يعد أمام إردوغان إلّا أن يعود عن سياسته السابقة، وأن يبادر إيجابًا تجاه دمشق، لتعزيز الثقة معها، وأن يمضي قدمًا على طريق استعادة العلاقات الثنائية السورية- التركية. فمعلوم أنّ هذه الاستعادة تتطلّب وقتًا طويلًا بسبب تعقيد الملفات العالقة بينهما، كاحتلال القوات التركية إراضي سورية، ورعاية المجموعات التكفيرية المسلّحة في الشمال السوري، ومحاولة تغيير الديموغرافيا السورية من خلال استخدام أنقرة ورقة اللاجئين السوريين... و اليوم، لا ريب أنّ مصلحة أنقرة هي في التفاهم مع دمشق لإعادة النازحين إلى ديارهم بغية تخفيف أعبائهم الاقتصادية والمعيشية عن الخزينة التركية، وومن أجل إعادة فتح الحدود مع سوريا التي تشكّل بوابة تركيا نحو الشرق. فرحلة الألف ميل تبدأ بخطوةٍ واحدةٍ. وتبقى العبرة في التنفيذ، أي أن يقرن إردوغان الأقوال بالأفعال.