غريبٌ أمرُ من يكتبون. يتنازعُهم أحيانًا صراع بين أن تحييَهم كلمتُهم حياةً كريمة، وأن يتمرَّدوا على ما جَنَوْه على أبنائهم، ليُبدعوا. وقلَّة همُ الذين وَفَّقوا بين الخِيارين.

الأستاذ الجامعي الروائي الناقد الدكتور عبدالمجيد زراقط هو من هذه القلَّة، وإن كان لا يزال يعبِّر بمرارة ويسأل: هل يمكن الباحثَ الناقدَ أن يكون أديبًا مبدعًا؟ نعم يمكنه، والدليل أنه نال عام 2023 "جائزة كتارا" للإبداع عن رواية للناشئة، عنوانُها "الرحلة العجيبة - أبناء القمر". وبهذه الجائزة، توَّج مسارًا أكاديميًّا وبحثيًّا وتأليفيًّا، تُرجم حتى الآن بأكثرَ من 60 كتابًا، وبأكثرَ من جائزةٍ، فضلًا عن سنوات التدريس في الجامعة اللبنانية التي طوى صفحتها عام 2010.

الدكتور زراقط هو ابنُ بلدة مركبا الجنوبية، وابنُ دار المعلمين والمعلمات. نال درجة الدكتوراه من جامعة القديس يوسف، ودرَّس في الجامعة اللبنانية. متابع لحركة الثقافة العربيَّة، يرفِدُها بدراساتٍ ومقالاتٍ ومشاركات في الكثير من المؤتمرات العلميَّة، وفي النَّدوات الثَّقافيَّة.


شهادة الماجيستر التي نالها الدكتور زراقط حملت عنوان "الشعراء اللبنانيون نقَّادًا"، أما أطروحة الدكتوراه فكانت عن مورفولوجيا الرِّواية اللبنانيَّة، أو بِنيتها أو شكلها، بين العامين 1972 – 1992، مستخدمًا أصول التحليل السَّردي.

هو عضو في اتحاد الكتَّاب اللبنانيين، وفي الاتِّحاد العام للأدباء والكتَّاب العرب، وقد أسهم في تأسيس ملتقى الثلاثاء الثقافي ومنتدى الضاحية الثقافي، وتولَّى رئاسة الهيئة الإدارية للمنتدى الأخير.

سكنه الجنوب، هذه الرقعة الوجدانية الإنسانية الجغرافية بطبيعته الخلابة، في كل أعماله، وربما يتنفسه، فجعل من كتاباته صورة واقعية حقيقية عن جبل عامل، كهلًا وشابًّا وطفلًا، أنثى وذكرًا، عاملًا ومعلّمًا ورجل دين، منتشرًا ومقيمًا. وربما لأنَّني أظنه مهوشِلًا فيه، ليل نهار، طفلًا لا يهدأ ولا يتعب، انصرف إلى الأدب الموجَّه إلى الناشئة، فانطبعت صورته الأدبية بهذا النوع الأدبي.


هُجر من أرضه، من مسقطه مركبا – قضاء مرجعيون، عام 1978، ولم يعد إليها إلا بعد التحرير عام 2000. وكأني به قد خصص كثيرًا من كتاباته عن المقاومة التي لم يقتصر مفهومها لديه على مواجهة العدو، إنما طاولت أيضًا أعداء الداخل، ولا سيما منهم، الإقطاع والفساد. فبدا له، على ما هو ظاهر، أن مواجهة عدو الخارج أسهل بكثير من أعداء الداخل.

وإذ اشتهر أدب المقاومة مع من عُرفوا بشعراء الجنوب، ومنهم كبار في الشعر، تحول إلى الرواية والقصة والمسرح والأغنية. فالأدب يبقى المعبر عن العمل من أجل تفجير الطاقات الإيجابية الواجبة للمواجهة، وبالتالي عن وجهة النظر الإنسانية الشمولية، لا العنصرية الضيقة، ساعيًا دائمًا إلى تهيئة الأفراد والشعوب والرأي العام لفكرة المقاومة، على ما لاحظت الدكتورة درية فرحات، في تناولها أدب الدكتور زراقط.

أصدر، إلى الآن، خمس روايات: "آفاق بوعلي"، "الهجرة في ليل الرَّحيل"، "طاحونة الذئاب"، "طريق الشمس"، "المصيدة"... ومحورها الرئيس المقاومة. ولا تخلو أقاصيصه وحكاياه، من إشارات إلى الموضوع نفسه. كأني به حاول التأريخ روائيًّا.

أما قصصه القصيرة، فهي: "ذات عصر"، "مناديل"، "حكايات في البال"، "المؤلَّفات القصصيَّة"، "ضحكات الكروم"، "تعب"، "جذور فوق التراب".


وقد وضع الدكتور زراقط كذلك أبحاثًا ودراسات في تاريخ الأدب ونقده، فحقق وقدم "ديوان جميل بثينة"، ونشر "الشِّعر الأموي بين الفن والسُّلطان"، و"عشَّاق العرب"، و"الحداثة في النَّقد الأدبي المعاصر"، و"في مفهوم الشِّعر ونقده"...، و"دراسات في التُّراث الأدبي"، و"في بناء الرِّواية اللبنانية، جزءان"، و"دراسات في الشِّعر وأعلامه، (العصر العبَّاسي)"، و"في الأدب وأنواعه"، و"الإبداع الأدبي العربي، قضايا وإشكالات"، و"في الأسلوبيَّة والشِّعريَّة والسرديَّة"، و"النَّص الأدبي ومعرفته"، و"في القصَّة وفنِّيتها"، و"في الأدب والفنون وأدب الأطفال"، و"في الرِّواية وقضاياها"، و"دروب في الزمن الصعب، قراءات في نماذج من الرواية العربية"، و"دراسات في النَّص التراثي وتوظيفه في النَّص الأدبي"، و"محسن الأمين، العالم المجتهد وحركته الإصلاحيَّة"، و"مضادَّات وسجالات ثقافية"، و"مسارات في الطريق"، و"النقد الأدبي: مفهوم، مسار تاريخي، مناهج"، و"ذاكرة قرية: مركبا"، و"في السَّرد العربي: شعريَّة وقضايا"، و"أدب الأطفال في الأدب العربي"، و"إضاءات: مقاربات وقراءات نقدية"، و"رحلتان: رحلة الفراري والرِّحلة الحجازيَّة (تحقيق وتقديم)"، و"في نظريات النقد الأدبي"، و"الجدَّة الأدبية وثقافة المقاومة"، و"دراسات في لغة القرآن الكريم".


كذلك تميز الدكتور زراقط بالأدب الموجَّه للأطفال، فخصصهم بمجموعات قصصيَّة: "حكايات مخدَّتي"، "القمر الهارب"، "حكايات الكروم" ، "ملك البستان"، "البالون الأزرق"، "انتصار العصافير"، "الأمير الغالي"، "صخرة الحظّ"، "هدية الجد"، "رحلة القفص الذهبي"، "فراشات وعصافير"، "من تاريخنا"، "دروب الخير"، "ما قالته الريح للقرميدة"، "الريح والقنديل"، "أغاريد من الجنوب"، "الحمامات البيض"، "فرح"، "دروس الأحبَّة"، "عودة العصافير"، "جنَّة الإحسان"، "قرية العطاء"، "تلبية النِّداء"، "عيد النَّصر"، "من حياة النبي محمَّد"، "حكايات جدائل الشمس"، "القادة الهداة".

هذا الكم من الإنتاج الأدبي المميز لم يخفِ لدى الدكتور زراقط المرارة التي طالما عبر عنها، أي عدم القدرة على التوفيق بين العمل الذي يجعله وأفرادَ أسرته يحيَوْن حياة كريمة، أي البحث والمقال والدراسة والتعليم، والتأليف الإبداعي، فخشي أن تدركه حرفة الأدب.

أما مضمون روايته التي نال عنها جائزة "كتارا" السنوية، وعنوانها "الرحلة العجيبة - أبناء القمر"، فقد كتبها عام 1982، وعاد إليها استجابة للجائزة، فأدخل عليها تعديلات بسيطة. والرواية مزيج من أسلوب تثقيفي معرفي استكشافي سردي خيالي، وقد حاول فيها الإشارة إلى عراقة القصّ العربي، من خلال مقارنته أساطير عربية بأخرى من حضارات مختلفة. فسعى بذلك إلى خلق جيل يعي ما يدور حوله إنسانيًّا ووجدانيًّا، بعدما أبعدته الاختصاصات الحديثة، العلمية الطابع، عن جو الأدب والفلسفة، مركزة على العلوم والمادة.

وإلى جائزة كتارا، حاز الدكتور زراقط جائزة الشيخة فاطمة الإماراتية، وجائزة اتحاد الكتاب اللبنانيين، فما أرضته فحسب، إنما حفزته أيضًا على تحدي نفسه أكثر، طامحًا ربما إلى جوائز عالمية.

وعُرف الدكتور زراقط أيضًا وأيضًا، بوضع سلاسل من القصص، اشتهرت في دول عربية، من مثل "ماجد في الإمارات"، "حمد وسحر في قطر"، "العربي الصغير في الكويت"، "قطر الندى في مصر"، فضلًا عن كتابته مسلسل "صلاح وانتصار" الذي يروي وقائع الانتفاضة الفلسطينية. وقد تعمد أن تظهر في هذه الأعمال منظومة القيم الوطنية والقومية والإنسانية، فرشحت من النص كما يرشح العطر من الزهرة.


وتناول في دراسة نقدية الكتاب الذي صدر تحت عنوان "خميس مجلة شعر"، متوكئًا ربما على ما قاله مؤسس تلك المجلة يوسف الخال: "الذي يخاف من النقد هو وحده لا يؤمن بالشيء المنقود، ولا يثق بقدرته على الصمود". فتجربة هذه المجلة أحدثت تغييرًا مهمًا في المشهد الثقافي، اللبناني والعربي، واستطاعت مصالحة الحداثة مع التراث، أو إيجاد جامع مشترك بينهما، يؤكد الاستمرار بأسلوب جديد.

وفي عرف الدكتور زراقط أن الكتابة الإبداعية تغني الناقد، وتضيف إليه، فتضيء النص. وهو يقول "لا تجد ناقدًا مبدعًا إلا قليلًا، أدونيس مثالًا"، بما يجعل مقولة أن صانعي النظريات البلاغية العربية لم يكونوا مبدعين في الأساس، صحيحة. فالخليل بن أحمد الذي نظم الشعر، على سبيل المثال، كان شعره رديئًا.

تمتع الدكتور زراقط بالجرأة، الأدبية خصوصًا. فبصفة كونه رئيسًا لمنتدى الضاحية الجنوبية الثقافي، دعا وثلة من المثقفين عام 1991، وكانت حرب المدفع في لبنان وضعت أوزارها للتو، الشاعر سعيد عقل إلى أمسية شعرية، كانت حاشدة، أقيمت في مدرسة "الأميكال مودرن"، في الضاحية، واستهلها العلامة محمد حسن الأمين مرحبًا بشاعر رندلى قائلًا: سعيد عقل بيننا؟ يا لَبهاء اللحظة.

فالشعر في قاموس الدكتور زراقط عابر للأزمنة والمواقف والطوائف.