يشهد القطاع العقاري في لبنان عام 2024 تحديات كبيرة وتحوّلات جوهرية بسبب الأزمات التي عصفت بالبلاد. يعتبر هذا القطاع من أهمّ القطاعات الاقتصادية، إذ يلعب دورًا رئيسًا في النمو وتوفير فرص العمل. ومع ذلك، فإنّ التحديات الراهنة تلقي بظلالها عليه، وتجبر الفاعلين فيه على التكيّف مع الظروف الطارئة والمتغيّرة.

 

 التحديات الاقتصادية والسياسية

من أبرز التحديات الاقتصادية والسياسية:

الأزمة السياسية: عدم الاستقرار السياسي في لبنان يؤثّر بشكل كبير في الثقة بالسوق العقاري. وتأخّر تشكيل الحكومات، والفراغ الرئاسي، والأحكام بالإنابة، وإضراب المرافق العامّة، والصراعات السياسية المستمرة يضيف مزيدًا من الضغوط على القطاع العقاري.

الواقع الأمني: الحرب الدائرة في جنوب لبنان والعمليات العسكرية التي تستهدف أحياناً العمق اللبناني، وتداعيات الحرب الإسرائيلية على غزة، هذه كلّها عوامل لا تشجع على الاستثمار خصوصاً في المجال العقاري. 

الأزمة المالية: يعاني لبنان منذ العام 2019 من أزمة ماليّة خانقة تتمثّل في تضخم مفرط بلغ 222 في المئة في المتوسط للعام 2023، وفقاً للبنك الدولي، وانهيار في قيمة الليرة اللبنانية الذي خسرت أكثر 90 في المئة من قيمتها. هذا الوضع أدّى إلى انخفاض القوّة الشرائية للمواطنين وصعوبة الحصول على القروض العقارية.

أزمة المصارف: أدّت الأزمة المصرفية إلى تجميد الودائع المصرفية وصعوبة الوصول إلى السيولة، وهذا ما أثّر سلبًا في قدرة المستثمرين والمشترين على تمويل مشاريعهم وشراء العقارات. علماً أنّه في مستهل الأزمة، سحب العديد من المودعين ودائعهم، واشتروا بها عقارات، كنوع من الاستثمار الآمن، وهو ما جعل القطاع العقاري يعيش فترة انتعاش اصطناعي في عامي 2020، و2021، ثم عاد إلى التراجع.

السوق العقاري في 2024

1. الطلب على العقارات: على الرّغم من الأزمات، لا يزال هناك طلب على العقارات، خاصة في مناطق معينة مثل بيروت الكبرى ومناطق الساحل. يتركّز الطلب بشكل أكبر على العقارات ذات الأسعار المنخفضة والمتوسطة. وارتفاع الطلب كان مدعوماً أيضاً بالنزوح الكبير لأهالي الجنوب، إذ نزح أكثر من 100 ألف مواطن إلى مناطق "أكثر أمانا" نتيجة القصف الإسرائيلي المستمرّ على المناطق الحدودية، وهذا ما ساهم في رفع الطلب على العقارات، وخصوصًا المنازل السكنية، فارتفعت أسعار الإيجارات، وقد تخطّى بعضها الألف دولار في بعض المناطق اللبنانية.  

2. الأسعار: شهدت أسعار العقارات خلال الأزمة، وتحديداً بين عامي 2022 و2023، انخفاضًا ملحوظًا بسبب تراجع الطلب العام وصعوبة الحصول على تمويل. ومع ذلك، تبقى الأسعار مرتفعة نسبيًا في بعض المناطق المصنّفة بالراقية.

3. التطوير العقاري: تواجه شركات التطوير العقاري صعوبات في تمويل مشاريعها بسبب نقص السيولة وصعوبة الحصول على قروض. هذا الأمر أدّى إلى تباطؤ في تنفيذ المشاريع الجديدة وتأجيل بعضها مقابل طفرة في مشاريع العمار التجاري التي تبغي الربح السريع، والتي لا تلتزم، في تصميمها، معايير السلامة، وتستخدم موادَّ رخيصة لا تراعي مقاييس البناء العالمية، وهو ملف سبق لموقع "الصفا نيوز" أن تناوله على نحو مفصّل. 

 

الطلب يرتفع والإمكانات غير موجودة

في هذا الإطار، يوضّح الخبير والمستشار في الشؤون العقارية، جورج نور، لـ"الصفا نيوز" أنّ "القطاع العقاري لا يزال في العناية الفائقة، في غياب التمويل المالي للمشاريع العقارية، وهو العصب الرئيس لتطوير القطاع. في حين أنّ غالبية المشاريع التي تنفّذ هي من تمويل ذاتي لتلبية حاجة شخصية".

ولفت نور إلى ارتفاع الطلب على الشقق مع تزايد العدد السكاني للبنانيين، وغيرهم. معتبراً أنّه "لتلبية حاجات التكاثر السكاني الطبيعي (اللبنانيون فقط) يجب أن يكون لدينا زيادة سنوية بنسبة 4 في المئة في الشقق السكنية، وهي تمثّل الناتج الصافي للتكاثر السكاني، الأمر الذي يزيد الضغط على القطاع العقاري في ظلّ غياب الإمكانات لدى القطاع الخاص لتلبية مثل هذا الطلب".

أمّا على صعيد القطاع العام، فيقول نور "حدّث ولا حرج، ففي غياب السياسات العامّة الإسكانية، وغياب رؤية لدعم الإسكان، تقف الدولة عاجزة عن تأمين السكن للشباب، وهو ما يمنع بقاءهم في البلد وتأمين فرص عمل لهم ومستقبل جيّد، ويجعل خيار الهجرة هو الخيار المفضل، إمّا بحثاً عن فرص عمل في الخارج (في الدول العربية خاصة)، وإمّا للدراسة والعيش (في دول أميركا اللاتينية ودول أفريقيا التي تعتبر من دول الاغتراب).

أسعار العقارات تعود إلى ما قبل الأزمة

أمّا أسعار العقارات فأكّد نور أنّها "بدأت تعود إلى ما كانت عليه قبل الأزمة، بسبب أنّ تكلفة العمار أصبحت بالعملة الصعبة، أي الدولار الفريش، وارتفعت معها تكلفة الأيدي العاملة، كما أنّ المطوّرين العقاريين لم يعد لديهم تسهيلات مالية تدعم مشاريعهم، وهو ما يؤثر سلبًا في التكلفة".

وأشار إلى أنّ الطلب الأكبر، اليوم، هو على استئجار الشقق، أكثر منه على شرائها، لكون الإيجار حاجة رئيسة لدى الناس، في ظلّ انعدام التمويل المصرفي لتمكينهم من شراء شقق، كما أنّ الثقة بالقطاع المصرفي مفقودة".

وأوضح نور أنّ القطاع العقاري ينقسم إلى فئات ثلاث، هي: 

- المباني السكنية: غالبيتها تؤجر شققها. 

- المباني التجارية: يفضل التاجر الاستئجار بدل الشراء لاعتباره أنّ الايجار في عداد الكلفة التشغيلية التي توفّر له مردود البيع، وبالتالي إذا لم يحقّق الأرباح المطلوبة لتسديد بدل الإيجار ينقل محلّه إلى منطقة أخرى.

- المكاتب تعاني من انخفاض الطلب، ويقتصر تشغيلها على بعض الشركات العالمية، في حين أن متطلّبات الأخيرة كبيرة وليست متوافرة إلا في العاصمة، كما أًصبحت غالبية الشركات تستأجر مكاتب تلبي العمل المطلوب فقط، وتكفي عدد الموظفين الذين يتطلّب عملهم النزول إلى المكتب، فيما يعتمد باقي سوق العمل على العمل الهجين (من المنزل). 

 وبيّن نور أهمية "شركات الـoffshore، التي توظّف لبنانيين من أهل الكفاية العالية، لتقديم خدمات للشركات في الخارج، في دول الخليج أو في الدول الأوروبية أو في الولايات المتحدة الأميركية. وهي سابقة في القطاع العقاري اللبناني، أن يستقبل شركات أجنبية بهذا الحجم، تنتج أعمالاً لحساب شركات قائمة في الخارج، وبالتالي تستفيد هذه الشركات من قدرات اللبناني، بدءاً من تمكّنه من اللغات، وانسجامه مع مختلف الثقافات التي يعمل معها، مرورًا بخبراته العالية ومهاراته في التواصل. وهذا كله يُقدّم بأسعار خدمات تنافسية مقارنةً بالأسعار المتداولة في المنطقة".

وعن الجهات المشترية، يقول "الأفراد الذين يشترون العقارات اليوم، هم المستثمرون، أو من يملك سيولة فائضة. فهؤلاء يفضّلون وضع أموالهم في توظيفات عقارية، بدلًا من إيداعها المصارف، خصوصاً أنّهم يواجهون صعوبة في فتح حسابات في الخارج. هذه التوظيفات تساعد المطوّرين العقاريين على تطوير مشاريعهم في مدّة أسرع، وبأسعار مخفّضة. وقد بدأنا نشهد في مناطق عدة،  مثل بعبدا، والحازمية، وضواحي بيروت، شققاً تراوح أسعارها بين 150 ألف دولار و300 ألف، ناهيك بالشقق الأكبر التي أسعارها مرتفعة جدًّا. اليوم يقبل المستثمر بربح لا يتخطى الـ6 في المئة، على استثماره، على عكس الماضي، إذ كانت النسب عالية، لكون السياسات المصرفية شجعت المستثمر على وضع أمواله في المصارف مقابل فوائد عالية، بدل استثمارها في السوق".

ورأى نور أن "أمام المغتربين فرصة جيّدة لشراء العقارات، خصوصاً من يملك "الكاش منهم"، إذ بإمكانه شراء عقارات بأسعار مخفّضة. وإلى المغترب ينضمّ المواطن الأجنبي، الذي ارتفع طلبه في الآونة الأخيرة على شراء العقارات، خصوصاً في المناطق الجبلية".

أمّا الأراضي "فسياساتها تخضع للعرض والطلب، وبالتالي من يلجأ إلى بيع أرضه يكون بحاجة إلى المال، للعيش، أو لتعليم ابنه، أو للسفر، في حين أن المشتري يكون بحاجة إلى التخلّص من ماله النقدي".

الحلول والتوجهات المستقبلية

إزاء هذا الواقع، هناك العديد من الحلول التي يمكن اعتمادها، ومنها:

1. الاستثمار الأجنبي: يمثّل جذب الاستثمارات الأجنبية حلاًّ محتملاً لتحفيز السوق العقاري. تعمل بعض الشركات على تقديم مشاريع جذابة للمستثمرين الأجانب، مستفيدة من انخفاض قيمة الليرة لجذب رؤوس الأموال الخارجية.

2. التطوير المستدام: يمكن أن يكون التركيز على التطوير العقاري المستدام حلاًّ لتحديات القطاع. تنفيذ مشاريع تعتمد على الطاقة المتجددة وتراعي البيئة قد يجذب مستثمرين يهتمون بالاستدامة.

3. إصلاحات اقتصادية: يحتاج لبنان إلى إصلاحات اقتصادية جذرية لإعادة الثقة إلى الاقتصاد والسوق العقاري. تشمل هذه الإصلاحات تحسين الوضع المالي والمصرفي وتحقيق الاستقرار السياسي، ووضع خطط حكومية مخصصة للقطاع العقاري.

في المحصّلة، رغم التحديات الكبيرة، التي يواجهها القطاع العقاري، فإنّ الفرص لا تزال متوافرة، خاصة مع إمكان جذب الاستثمارات الأجنبية والتركيز على مشاريع التطوير المستدام. وبالتالي، فإنّ تحقيق انتعاش حقيقي في هذا القطاع يتطلّب إصلاحات اقتصادية جذرية واستقرارًا سياسيًا يمكن أن يعيد الثقة إلى المستثمرين والمشترين على السواء.