مقابل مظاهر الانتعاش "المقنّع" التي تطفو كرأس جبل "الجليد"، يسحق الفقر السواد الأعظم من اللبنانيين تحت سطح بحر الانهيار. وما نشهده من مؤشّرات إيجابية على المستويات الاقتصادية، النقدية والمالية، ما هي سوى "حبال رفيعة" رفعت بعض لبنان قليلاً من القعر. وفي ظلّ استمرار تغييب الإصلاحات البنيوية، لن تعجز هذه المؤشّرات عن سحب لبنان إلى ضفة الأمان فحسب، بل هي مهدّدة بالانقطاع في أيّ لحظة وترك البلد يرتطم بقوّة في قعر الانهيار.
تصنّف الزميلة فرح الشامي رئيسة برنامج الحماية الاجتماعية في "مبادرة الإصلاح العربي" ومديرته، المرحلة بـ "توازن الفقر" (equilibrium of poverty)، وهي ناتجة من عدم معالجة مسبّبات الأزمة، وفي مقدّمتها السياسة النقدية، إذ "فشل لبنان بعد نحو 5 سنوات على الانهيار من وضع سياسة نقدية موحّدة، واضحة وصريحة، سواء كانت تعويم مدار أو تثبيت أو تحرير كامل أو جزئي أو حتّى دولرة. واستمرّ في اعتماد ما يعرف بـ "التعويم القذر" (dirty float) وهو نظام لسعر الصرف لا يكون فيه سعر الصرف حرّاً، أو عائماً بأكمله ولا ثابتاً. فأصلحت السوق نفسها بنفسها، لكن بطريقة مشوّهة، خصوصاً على مستوى الأسعار والأجور. وذلك على الرغم من الوقت الطويل الذي استغرقته، إذ ارتفعت الأولى إلى معدّلات تجاوزت تلك التي كانت عليها قبل الانهيار، وانخفضت الثانية إلى معدّلات أدنى. فكان التصحيح العشوائي غير كاف، ولا مستداماً".
التكيّف السلبي مع الانهيار ليس دليل تعافٍ
في الموازاة، استمرّ الاقتصاد في الاعتماد على الريع. وأصبحت تحويلات المغتربين، وعائدات السياحة والمساعدات النقدية والعينية تشكّل المداخيل الأساسية للاقتصاد، مع عجز فاضح عن توليد قيمة مضافة من النشاطات الانتاجية. وهذا الواقع هشّ بطبيعته، وغير كاف وغير مستدام أيضاً. وبالتالي، أعجز عن تأمين العدالة الاجتماعية والمساعدة على وضع سياسات واضحة لمجابهة الفقر والتخفيف من حدّته في أوساط الأغلبية العظمى من السكان.
مقابل هذين الواقعين المتكاملين، لا بل المتلاحمين، تنشأ "آليات التكيف المنتظمة" (Coping mechanisms)، فيؤمّن المواطنون مداخيل من مصادر متنوّعة للبقاء أو بالأحرى للنجاة، مثل: الاعتماد على تحويلات المغتربين، وبيع الممتلكات، والتقشّف، والاستدانة، والعمل في أكثر من وظيفة... وهذا لا يضاعف مستويات الفقر فحسب، في رأي الشامي، إنّما "يفاقم اللامساواة ويعمّق الفجوة بين قلّة غنيّة وأكثريّة فقيرة، ويدفع لبنان إلى مرتبة أكثر دول الجنوب انعداماً للمساواة". وقد نتج من كلّ هذه المتناقضات مجتمعان يتعايشان تحت سقف واحد، الأول ظاهر للعيان في الأسواق والمجمّعات التجارية والمسابح والمطاعم، والثاني مغمور في أحزمة البؤس حول المدينة ومناطق الأطراف، والمخيمات والقرى والبلدات. وعليه، من الطبيعي، في نظر الشامي، أن "يكون هناك أيضاً صيفان متوازيان أو (parallel summer)، الأول منتعش وصاخب يستقطب ما بين 10 و20 في المئة من السكّان والمغتربين، والثاني مقهور يمثل نسبة 80 في المئة المتبقية".
الوهم ينعكس على الاقتصاد، ولكن!
صحيح أنّ تسويق فكرة تخطّي الانهيار في المؤشّرات والإعلام ووسائل التواصل الاجتماعي تجذب الاستثمارات، لكن في ظلّ عدم تحقيق الإصلاحات، تتوجّه الأموال تلقائيا إلى القطاعات نفسها التي تعمّق اللامساوة. "فلا نرى استثمارات في الإنتاج، إنّما في المطاعم وبيوت الضيافة والخدمات التي تصبّ في النهاية في جيوب الأقلّية المستفيدة، ولو أنّها تستولد بعض الوظائف برواتب متدنّية"، تقول الشامي.
مكافحة الفساد والاحتكار وتأمين الخدمات الأساسية وهي كلها عناصر تحدّ من الفقر وتعزز مداخيل الأسر والأفراد
44 في المئة من السكان فقراء
في سياق متصل، يبيّن آخر تقرير للبنك الدولي الصادر في 23 أيار 2024 تحت عنوان "تقييم وضع الفقر والإنصاف في لبنان 2024: التغلّب على أزمة طال أمدها"، ارتفاع معدّل الفقر أكثر من ثلاثة أضعاف خلال العقد الماضي، وشموله 44 في المئة من مجموع السكاّن. وذلك بالاستناد إلى دراسة استقصائية للأسر أُجريت أخيراً في محافظات عكار وبيروت والبقاع وشمال لبنان ومعظم جبل لبنان. وخلص التقرير إلى أنّ واحداً من كلّ ثلاثة لبنانيين في هذه المناطق شمله الفقر في عام 2022. و"يصنّف البنك الدولي الفقراء، الأشخاص الذين يعيشون على أقلّ من 53.4 مليون ليرة في الشهر (تعادل تقريبا 600 دولار على سعر صرف السوق 89500 ليرة)"، تقول الشامي. وتتركّز هذه النسب في شمال لبنان (عكار: 70٪) وعلى مستوى النازحين السوريين. ولا يُقابل هذا الواقع، بحسب ما يستشفّ من تقرير البنك الدولي، باعتماد سياسات اجتماعية واقتصادية فعالة لمواجهته. يقول التقرير إنّ هذا الواقع "يسلّط الضوء على ضرورة تعزيز شبكات الأمان الاجتماعي واستيلاد فرص العمل للمساعدة في التخفيف من حدّة الفقر ومعالجة أوجه عدم المساواة المتنامية". وهذا لم يحصل منذ بداية الانهيار، بحسب الشامي. "إذ جرى عرقلة الخطط ومقترحات القوانين المعنية، وأُهمل وضع الآليات التنفيذية لقوانين موجودة تتعلّق بمكافحة الفقر وبناء شبكة أمان اجتماعي لا تشمل أكثر من 3.5 في المئة من السكان، ومكافحة الفساد والاحتكار وتأمين الخدمات الأساسية وهي كلها عناصر تحدّ من الفقر وتعزز مداخيل الأسر والأفراد".
كرّر البنك الدولي في ختام تقريره ما حفظه اللبنانيون "كرجة مي"، وما زال يتجاهله صانعو القرار، قال "من شأن الإصلاحات المالية الكلّية الشاملة أن تساعد على تأمين استقرار الأسعار وتوفّر الحيّز المالي للإنفاق الاجتماعي. كما أنّ الاستثمار في رأس المال البشري ضروري لبناء قدرة الأسر على الصمود من خلال ضمان نطاق الحصول على تعليم جيد ورعاية صحّية ميسورة التكلفة. بالإضافة إلى ذلك، يسهّل توفير وسائل النقل العام بأسعار ميسّرة الوصول إلى المدارس والحصول على خدمات الرعاية الصحية وفرص العمل. ويمكن المبادرات التي تربط الباحثين عن فرص عمل بالوظائف الرسمية التي تتناسب مع مهاراتهم، وبرامج التشغيل المنتج التي تعزز ريادة الأعمال وتنمية المشاريع الصغيرة، أن تساعد أيضاً في تحسين سبل كسب الدخل للأسر، والحدّ من احتمال الوقوع في الفقر أو المساعدة على الخروج منه".
في الخلاصة، فإنّ الانهيار مستمر، وإن كان قد تباطأ مرحلياً، فذلك على حساب زيادة معدّلات الفقر وتعميق اللامساوة.