لم تتزحزح دمشق عن موقفها الراسخ والرافض تدخّل أيّ جهةٍ خارجيةٍ في الشؤون الداخلية السورية، وهذا ما أكّده رئيسها بشار الأسد، في القمة العربية التي عُقدت في جدّة في المملكة العربية السعودية العام الفائت، وذلك بعد الغياب القسري عن لقاءات جامعة الدول العربية على مدى 12 عامًا، وظلّ على هذا الموقف الثابت عند طرح أيّ صيغة مصالحةٍ مع الدول الشريكة في الحرب على سوريا والمقاطعة لها، إن كان بالتواصل المباشر معها أو عبر الوسطاء الدوليين والإقليميين. فلا ريب أنّها ماضية في استعادة دورها وتعزيز حضورها في العالم العربي والمنطقة.

وتشهد سوريا موجةً من الانفتاح السياسي الأوروبي عليها، بعدما رفضت إقامة علاقات أمنية مع دول الاتحاد الأوروبي وسواها قبل إقامة العلاقات السياسية أو إعادة تفعيلها. فكان لدمشق ما أرادت، فجاء التغيير في مواقف بعض الدول التي ناصبت العداء للأولى لمصلحة "الشام"، وتحت سقف مواقف الأسد. وبداية هذا التغيير أطلّت من القارة الأوروبية، وظهر هذا التطور جليًّا في الموقف الغربي حيال دمشق إثر زيارة وزير الخارجية التشيكية يان ليبافسكي العاصمة السورية في آخر نيسان الفائت. ثم أتى أخيراً الموقف المدوي للرئيس التركي رجب الطيب إردوغان الذي أكّد فيه أن "ليس هناك سبب لعدم إقامة العلاقات مع سوريا، وسيتمّ العمل كما في السابق لتطوير العلاقات الثنائية". أي تراجع عن كلّ مواقفه السابقة التي تدعو إلى تغيير الدستور السوري وإشراك "المعارضة" في الحكم وتغيير "النظام"

وتشكّل تجاوزًا للسيادة السورية. كذلك هناك ثابتة أساسية لدى القيادة السورية هي ضرورة التوافق أو وضع جدول زمني لإنهاء الاحتلال التركي للأراضي السورية، والتزام أنقرة وقف دعم الإرهاب في شمال غربي سوريا وسواه.

في المقابل، أعرب الرئيس السوري عن انفتاحه على الجهود المبذولة لإصلاح العلاقات بين سوريا وتركيا وسط جهود المصالحة الإقليمية. يذكر أنّ آخرها كان الدور البازر لروسيا والعراق في هذا الشأن. وجاء موقف الأسد خلال لقائه الموفد الخاص للرئيس الروسي ألكسندر لافرنتييف في الأيام الأخيرة، وهذا ما يؤشّر بوضوحٍ إلى أنّه حمل إلى دمشق أجواءً إيجابية من الجانب التركي.

أعرب الرئيس السوري عن انفتاحه على الجهود المبذولة لإصلاح العلاقات بين سوريا وتركيا وسط جهود المصالحة الإقليمية

ويبدو أنّ هذه المواقف المستجدّة والإيجابية لأنقرة حيال سوريا، آيلة إلى حيز الترجمة الفعلية على أرض الواقع. لذا، هل كان تسليط الضوء على التصعيد العنصري التركي تجاه اللاجئين السوريين إلى الأراضي التركية، والذي أسهم في اشتعال الشمال في وجه القوات التركية وأتباعها في الساعات الفائتة، من قبيل المصادفة أو توطئة للتخلّي عنهم، خصوصًا عقب موقف رئيس النظام التركي المذكور آنفًا، بعدما وصفهم في أشهر الحرب الأولى على سوريا، بـ "المهاجرين" والأتراك بـ "الأنصار"، ثم وصف هؤلاء اللاجئين بـ "الغرباء"؟ إذاً، قد تكون حوادث الشمال السوري الأخيرة مفتعلة بما يتناسب مع الانعطافة التركية إزاء دمشق.

في السياق نفسه، تؤكّد مصادر سياسية سورية أنّ قرار "تفكيك المجموعات الإرهابية المسلّحة"، خصوصًا المصنّفة وفق قوائم الأمم المتحدة، بات أمرًا محسومًا، ولا عودة عنه، ولكن لم تتضح حتى الساعة كيفية تفكيك هذه المجموعات". ولا تستبعد أن "يتم ذلك بعملية أمنية يقوم بها الجيش السوري وحلفاؤه، بالتنسيق مع الجيش التركي"، مؤكدةً أن "التنسيق قائم أصلًا".

وتعتبر المصادر عينها أنّ ما "أسهم في تأجيج الأوضاع في "الشمال"، هو تيقّن المجموعات الإرهابية المسلحة، من أن نهايتها اقتربت، وأنّ "مستقبلها صار في الهواء، ومصيرها على المحكّ"، لذا استشرست ضد الأتراك وأتباعهم في "حوادث الشمال" الأخيرة، على اعتبار أنّ عناصر تلك المجموعات ذهبوا في العداء للدولة السورية إلى حدّ ينطبق عليه المثل الشعبي "ما تركوا للصلح مطرح"، ولا سيّما مرتكبي الجرائم في حق الشعب السوري.

في المحصلة، تأتي هذه "الانعطافة الإردوغانية" منسجمةً مع الواقع الراهن. فالدولة السورية لم تسقط، وتتوسّع دائرة الانفتاح العربي والأوروبي والعالمي عليها في تقدمٍ لافتٍ. وبالتالي، باتت المجموعات التكفيرية المسلّحة خارج قواعد الاستخدام، وتحوّلت عبئًا اقتصاديًا وأمنيًا على تركيا، وأدّى ذلك إلى تراجع شعبية حزب "العدالة والتنمية" الحاكم في أنقرة في الانتخابات البلدية الأخيرة، وقبلها في الاستحقاق الرئاسي. كذلك هناك مصلحة اقتصادية تركية بإعادة فتح الحدود مع سوريا لأهميّة موقعها الجغرافي، فهي بوابة الشرق. عدا أنّ المصلحة التركية لا تقتضي بإبقاء بؤرة مسلّحة مصنّفة دوليًا بـ "الإرهابية" في إدلب على الحدود السورية- التركية. هذه العوامل كلها أدّت إلى هذا التغيير في الموقف التركي.