في السنوات الأخيرة، شهد العديد من المؤسسات والشركات تغييرات جذرية في هيكلية العمل وأنماط الإنتاجية. نتيجة لهذه التغيّرات، تبرز تساؤلات عن كيفية تحسين بيئة العمل ورفع مستوى الرضا والإنتاجية في صفوف الموظفين. من الخيارات المطروحة، اثنان رئيسان: تقليل أيام عمل الموظفين أو تبنّي نظام العمل عن بُعد. فما هي أبرز تحدّيات كلّ خيار ومزاياه؟ 

لكلّ شركة نظامها وطبيعتها 

في هذا الإطار، قال رياض بارودي الخبير في مجال الموارد البشرية لـ"الصفا نيوز" إنّ "مبدأ تقليل أيّام العمل يختلف حسب طبيعة الشركة والمنتج النهائي والقطاع. يمكن تطبيق هذا المبدأ في الشركات الإدارية والتجارية والاستشارية والمصارف، ولكن من الصعب جداً تطبيقه في قطاع البناء أو المصانع التي تعتمد أنظمة المناوبة، وبالأخصّ أنّها تتميز بطبيعة انتاج متواصلة طوال الأسبوع. في هذه القطاعات، من الممكن تطبيق نظام الخمسة أيام على بعض الوظائف الإدارية. ولكن كمبدأ عام تبيّن الأبحاث أنّ عدد ساعات العمل وعدد أيامه مرتبطة بتحقيق توازن بين حياة الموظف العملية وحياته الشخصية". 

تشير بضع دراسات حديثة، مثل تلك التي أجرتها جامعة أوكسفورد، إلى أنّ تقليل أيّام العمل يمكن أن يؤدّي إلى زيادة في الإنتاجية بنسبة 20 في المئة وزيادة رضا الموظفين بنسبة 40 في المئة. كما أظهرت دراسة أجرتها شركة Microsoft في اليابان أنّ تجربة العمل أربعة أيام في الأسبوع أدّت إلى زيادة الإنتاجية بنسبة 40 في المئة. بالإضافة إلى تقرير من مركز الأبحاث البريطاني"Autonomy" استند إلى بيانات من شركات متعدّدة وخلص إلى أنّ تقليل أيام العمل قد يعزز الابتكار والإبداع، لأنّ الموظفين يشعرون بمزيد من الارتياح، فيزيد ذلك من قدرتهم على التفكير الإبداعي وحلّ المشكلات. 


فوائد اقتصادية لتقليل أيام العمل 

ورأى بارودي أنّ "بعض الدراسات تأخذ في الاعتبار عدّة عوامل اقتصادية مثل تكاليف التشغيل والمرتبات والإنتاجية. واستنتجت أنّ العمل لأربعة أيام في الأسبوع قد أدّى إلى توفير في التكاليف التشغيلية مثل فواتير الكهرباء والمياه، وأيضاً تقليل التكاليف المتعلّقة بالتنقل والمكاتب. بالإضافة إلى ذلك، زيادة الإنتاجية عوّضت عن تقليل عدد ساعات العمل". ونصح "الشركات في قطاعات محدّدة بتقليل أيام العمل إذا كانت من القطاعات التي يمكنها القيام بذلك. هذا النظام يمكن أن يؤدّي إلى تحسين التوازن بين الحياة المهنية والشخصية للموظفين، وزيادة الرضا الوظيفي، وتحسين الصحة النفسية، وهو ما ينعكس إيجاباً على الإنتاجية والأداء العام". 

وشدّد على أنّ "تغيير نمط أيام العمل يمكن أن يؤدّي إلى تغيير جذري في هيكلة العمل داخل القطاعات المختلفة. قد نرى تحسّناً في الابتكار والإبداع نتيجة للراحة النفسية وزيادة التركيز، بالإضافة إلى جذب أهل المهارات العالية التي تبحث عن بيئة عمل أكثر توازناً. ولكن في القطاع الصناعي هناك العديد من المحاذير المتعلّقة بالإنتاج والقوانين وطبيعة الالتزامات". 

فوائد العمل الهجين 


على مقلب آخر، أكّدت دراسات حديثة من جامعة ستانفورد أنّ العمل الهجين يمكن أن يؤدي إلى زيادة في الإنتاجية بنسبة 13 في المئة. وكشفت دراسة أخرى من شركة "جارتنر" أنّ 82 في المئة من الشركات التي تبنّت العمل الهجين لاحظت تحسّنًا في رضا الموظفين وتفاعلهم. أمّا دراسة من "ماكينزي" فقد وجدت أنّ العمل الهجين يساهم في تعزيز الابتكار، إذ أفاد 67 في المئة من المديرين التنفيذيين بأنّ فرقهم كانت أكثر قدرة على الابتكار عندما كانت تعمل وفق نظام هجين مقارنة بالعمل من المكتب فقط. 

وعليه، قال بارودي "إنّ الدراسات تظهر أنّ الإنتاجية في النظام الهجين تكون غالباً أعلى بسبب مرونة العمل التي تسمح للموظفين بتحديد أفضل الأوقات لأداء مهماتهم. بالإضافة إلى ذلك، فإنّ قلّة التنقّل وتحسن التوازن بين العمل والحياة الشخصية يساهمان في زيادة التركيز والإبداع". 

وعن المؤشرات الرئيسية التي تستخدمها الشركات لقياس الإنتاجية في كلا النظامين، أجاب بارودي أنّ "أقسام الموارد البشرية في مختلف الشركات يمكنها استخدام عدّة مؤشرات لقياس الإنتاجية في النظامين، مثل معدّلات إنجاز المهمات، وتحقيق الأهداف المحدّدة، ومعدّلات الحضور والاجتماعات، ومستويات الرضا الوظيفي من خلال استبيانات دورية". 

أكّدت دراسات حديثة من جامعة ستانفورد أنّ العمل الهجين يمكن أن يؤدي إلى زيادة في الإنتاجية بنسبة 13 في المئة...

تحديات العمل الهجين 

وللعمل الهجين عيوبه، منها التحديات التقنية، إذ يحتاج العمل الهجين إلى بنية تحتية تقنية قوية لدعم العمل عن بُعد. قد يواجه الموظفون تحديات مثل مشكلات الاتصال بالإنترنت أو نقص المعدات التقنية المناسبة. كما يقلّل العمل عن بُعد من فرص التواصل الشخصي والاجتماعي بين الزملاء، وهذا قد يؤثر سلبًا في بناء العلاقات المهنية وروح الفريق. ويصعّب على المديرين متابعة أداء الموظفين عن بُعد وتقييمه بشكل دقيق. 

 ولفت بارودي الذي يتمتّع بخبرة واسعة في منطقة الخليج العربي، في مجال تنفيذ إستراتيجيات مبتكرة تهدف إلى تحسين الأداء الوظيفي وتعزيز ثقافة العمل الإيجابية، إلى أنّ "استخدام أدوات تقنية مثل Microsoft Teams وSlack يمكن أن يسهم في تحسين التواصل والتعاون بين الفرق وضمان استمرار تدفق المعلومات. كما أنّ الاجتماعات الدورية عبر الفيديو والتحديثات المستمرة تساعد على الحفاظ على تماسك الفريق"، مضيفاً أنّه "يجب الاعتماد على أدوات مثل Zoom للاجتماعات الافتراضية، وTrello لإدارة المشاريع، وSlack للتواصل الفوري. هذه الأدوات تسهم في تسهيل التعاون، وبالتالي، يجب أن تعتمد أقسام الموارد البشرية في مختلف الشركات على تقويمات مشتركة وجدولة ذكية للتغلّب على هذه التحديات". 

الأثر على الصحة النفسية 


في المقابل، للعمل الهجين فوائد على الصحة النفسية، إذ وجدت دراسة من "جمعية علم النفس الأميركية " أنّ الموظفين الذين يعملون من المنزل يشعرون بإجهاد أقلّ بنسبة 25 في المئة مقارنة بأولئك الذين يعملون من المكتب. كما أشارت الدراسة إلى تحسن في توازن الحياة الشخصية والمهنية بنسبة 30 في المئة. ولفت تقرير "غالوپ " إلى أنّ الموظفين الذين يعملون وفق نظام هجين أظهروا مستويات أعلى من الرضا عن حياتهم المهنية والشخصية. وهناك دراسة من "إنستيتيوت فور ذا فيوتشر" أوضحت أنّ العمل الهجين يساهم في تقليل مستويات التوتر وزيادة الشعور بالتحكم في الحياة الشخصية، وهذا ما يؤدّي إلى تحسين الصحّة النفسية العامة للموظفين. 

عدا الفوائد النفسية للعمل الهجين، ثمة فوائد اقتصادية أيضاً يعدّدها بارودي "مثل تقليل التكاليف المرتبطة بالإيجارات والصيانة للمساحات المكتبية، بالإضافة إلى تقليل تكاليف التنقل للموظفين. هذه الوفورات تسهم في تحسين الميزانية التشغيلية للشركة". 

الاختيار صعب 


في المحصّلة، لكلّ النظامين مزايا وتحديات، ففيما يسمح تقليل عدد أيام العمل في الأسبوع بتحسين التوازن بين العمل والحياة الشخصية ويزيد من الإنتاجية، ويقلّل الإرهاق والإجهاد، يستولد تحديات عدّة، على رأسها صعوبة في إدارة الوقت، وارتفاع التكاليف التشغيلية في تغطية حاجات العمل المستمرة بموارد بشرية أقلّ، وخلل في التفاعل والتواصل. أمّا حسنات العمل عن بُعد فتكمن في مرونة العمل، وتوفير التكاليف، وجذب المواهب، مقابل تحديات سلبية كالعزلة الاجتماعية، وصعوبة الإدارة ومخاطر الأمن الإلكتروني. 

على أن تحديد أي الخيارين أفضل يعتمد بشكل كبير على طبيعة العمل وثقافة المؤسسة وحاجات الموظفين. قد تجد بعض المؤسسات أنّ تقليل أيام العمل هو الحل الأمثل لتحسين الإنتاجية ورفع معنويات الموظفين، في حين قد ترى أخرى أنّ العمل عن بُعد يوفر المرونة والابتكار المطلوبين لتحقيق الأهداف. في النهاية، يمكن المؤسسات تبنّي مزيج من الحلّين وتكييفهما وفقاً لحاجاتها الخاصة وتلبية تطلعات موظفيها، وهذا ما يعزز فرص النجاح والنمو المستدام.