يسمّم العدوّ الإسرائيلي بقنابله الفوسفورية، التي بدأ يستخدمها منذ 8 تشرين الأول 2023، وكان قد استخدمها في مراحل سابقة، أراضي جنوب لبنان، مخلّفا آثاراً كبيرة، بعضها بيئي وبعضها الآخر يهدّد سلامة الأهالي الذين يقطنون القرى الحدودية.
وللغوص أكثر في مخاطر الفوسفور الأبيض وتأثيره في الأراضي وصحّة سكّان الجنوب، أجرى موقع "الصفا نيوز" مقابلة مع كلّ من أنطوان كلاب، المدير المساعد في مركز حماية الطبيعة في الجامعة الأميركية في بيروت، والباحثة في المركز نفسه ليلى روسا معوض.
ما هو الفوسفور الأبيض؟
الفوسفور الأبيض مركّب كيميائي شديد التفاعل يشتعل فورًا عند تعرّضه للهواء، خاصّة عند ملامسته للأوكسجين، ويحترق عند درجات حرارة عالية للغاية. قد يسبّب حرائق من الممكن أن تنتشر بسرعة عندما تكون محاطة بالنباتات وغيرها من المواد القابلة للاشتعال. ويشتعل الفوسفور الأبيض مرّة أخرى بعد أسابيع من نشره الأصلي إذا تعرّض للأوكسجين، وينتج أبخرة ضارّة بصحة الإنسان. المادّة في ذاتها ليست متفجّرة، ولكن يمكن أن تتفاعل بعنف مع المركبات الكيميائية الأخرى، مسببةً انفجاراً كبيراً. ويمكن استخدام الفوسوفور الأبيض في الحروب وفي الألعاب النارية، ويعتمد تأثيره السامّ على الجرعة المستخدمة.
مخاطره؟
من الناحية الصحّية والرفاهية، يسبّب الفوسفور الأبيض حروقًا كيميائية وحرارية. يحدث الحرق الكيميائي نتيجة ملامسة حمض الفوسفوريك، ويحدث الحرق الحراري نتيجة تأثير احتراق الفوسفور الأبيض الذي هو أيضًا قابل للذوبان في الدهون، لذلك يمكن أن يخترق الجلد عند ملامسته له. بالإضافة إلى ذلك، يسبّب اضطرابات في الجهاز التنفّسي، وفشل الأعضاء، وحروقاً من الدرجة الثالثة. كما أنّ ملامسة أبخرة الفوسفور الأبيض للعينين، تسبّب تهيّجًا شديدًا وتلفًا في شبكة العين. عند التعرّض بشكل كبير، يؤثّر الفوسفور الأبيض على نظام القلب والأوعية الدموية، والجهاز العصبي المركزي، والكلى، والكبد.
المواطنون الذين تعرضوا لهجوم الفوسفور الأبيض يصفون أيضًا التجربة بأنّها "صادمة". ويرتبط التأثير في صحتهم النفسية بمدى الإصابات التي يعانونها مثل الضعف العام والأرق والخوف من الظلام. وتتوافق هذه الشهادات مع التأثير النفسي المعروف لهجمات الأسلحة الحارقة، وتحديداً الاضطراب العاطفي والقلق، واضطراب ما بعد الصدمة وحتى الاكتئاب.
من المنظور البيئي، عند التعرض لذخائر الفوسفور الأبيض، تتعرّض الأراضي الزراعية لانخفاض الإنتاجية. يمكن أن تعاني النباتات من آثار ضارّة، كالجفاف والموت الرجعي والذبول. كما يمكن أن يتسبّب قصف الفوسفور الأبيض في اندلاع حرائق على مساحات واسعة وتستمر في الاشتعال حتى استنفاد المواد كلها. تظهر الأبحاث أنّه يجب أخذ عوامل مختلفة في الاعتبار واستكمالها بجمع البيانات في الموقع لتحديد مدى خطورة الحالة.
مقدار الخسائر في الجنوب؟
في لبنان والمنطقة، تلحق هذه الأسلحة الحارقة الضرر بالنظم البيئية للغابات والتنوع البيولوجي الذي تستضيفه.
يهدّد تسرب الفوسفور الأبيض للتربة مجموعة متنوّعة من الكائنات الحية. وبمجرّد وصول المادّة إلى الأنهار وطبقات المياه الجوفية، تؤثّر على أيّ مجموعة سكّانية تستهلك المياه من هذه المصادر. ويتضاعف الخطر مع قابلية المسطّحات المائية لتعزيز التخثر والنمو المفرط للطحالب.
والآثار الناتجة متعدّدة الأبعاد. أولاً، تصبح الأراضي الزراعية التي تعتمد على هذه المصادر للريّ ملوّثة فعليًا. تغدو المحاصيل والماشية المحلّية عرضةً للخطر على الفور، وتتطلّب إجراء اختبارات للملوّثات. ويؤدّي تراكم حمض الفوسفوريك أيضًا إلى استنفاد التربة من خصوبتها ويعرّض الأرض لخطر التآكل.
ثانياً، يمكن أن يؤثّر انتشار الفوسفور الأبيض على أنظمة بيئية متعدّدة، وقد يعرّض الأمن الغذائي للخطر على المستوى المحلّي. ويؤثّر تلوّث مجاري المياه على صحة المجتمعات المجاورة التي تعتمد على هذه المصادر في مياه الشرب والاستخدامات الأخرى. كما أصبحت مصايد الأسماك القريبة معرّضة لخطر التلوث، الذي يمكن أن ينتقل إلى البشر عن طريق الابتلاع.
ومن المنظور الاجتماعي والاقتصادي، يؤدّي استخدام ذخائر الفوسفور الأبيض إلى إلحاق أضرار مباشرة وغير مباشرة بالممتلكات. وعدا التدمير المادّي الفوري الناجم عن القذائف نفسها، يتسبّب الفوسفور الأبيض في حرائق في المنازل والوحدات التجارية والسيارات والأراضي الزراعية. وبالتالي، يتكبّد العديد من المواطنين خسائر مالية كبيرة في ظلّ غياب آليات تعويض واضحة. وسيؤدّي الوضع إلى تفاقم عدم المساواة المحلّية إذا لم يتمكّن السكّان من تغطية تكاليف الإصلاحات أو اضطروا إلى تعليق أنشطتهم الاقتصادية ولو مؤقّتاً.
وتساهم هذه الأسلحة أيضًا في النزوح الداخلي لعشرات الآلاف من السكان. وتضطر مئات الأسر المتضررة إلى ترك ممتلكاتها وراءها هرباً من تهديد العدوان الإسرائيلي. ويؤدي هذا الوضع إلى تعطيل الأعمال والرعاية الصحية والتعليم وسبل العيش الكريم والتنقل على المستويين المحلي والوطني. وبالتالي، فإنّ ذخائر الفوسفور الأبيض تفضي إلى زعزعة الاستقرار الاجتماعي والاقتصادي الإقليمي.
وفي تشرين الأول 2023، أدّى استخدام الفوسفور الأبيض إلى إصابة أكثر من 100 مدني، ونحو 50 قتيلاً ونزوح 20 ألف شخص، وإلحاق أضرار واسعة بالممتلكات. وتسبّب أيضًا في 134 حريقًا في الغابات. وقد رسم المجلس الوطني للبحوث العلمية (CNRS) خرائط وقوّم شدة الحرائق في جنوب لبنان. وما بين تشرين الأول وتشرين الثاني 2023، دُمّر 462 هكتارًا من الغابات والحقول الزراعية وفقًا لتصريحات وزارة البيئة، ويرجع ذلك جزئيًا إلى الفوسفور الأبيض.
أكثر المناطق تضررا؟
أكثر المناطق تضرّراً من الفوسفور الأبيض هي الواقعة على حدود لبنان: قرى الخيام، مركبا، ميس الجبل، بنت جبيل، رميش، علما الشعب، الناقورة…
وينبغي للحكومة، بالتعاون مع منظمات المجتمع المدني، أن تقود الجهود الرامية إلى حظر استخدام مثل هذه الأسلحة. وبمساعدة المنظمات الدولية والخبراء العالميين، يجب على المسؤولين اللبنانيين أن يدينوا بشدّة الأطراف التي تستخدم الفوسفور الأبيض ضدّ المدنيين والبيئة الطبيعية. ويتعيّن على هذه التحالفات العالمية أن تسعى بلا هوادة إلى فرض قيود أفضل من خلال الدعوة إلى إعادة النظر في البروتوكول الثالث لاتفاقية الأسلحة التقليدية وتبنّي موقف أوسع بشأن هذه القضية.
من هي الجهة المسؤولة عن التعويض للمزارعين؟
لا بد للحكومة اللبنانية من السعي إلى الحصول على تعويضات عن انبعاثات الصراع والتدهور البيئي الذي تسبّبه الدول الأجنبية على الأراضي الوطنية. وينبغي للوزارات المعنية أن تعيّن تأثير ذخائر الفوسفور الأبيض التي يطلقها الجيش الإسرائيلي. ويجب استخدام النتائج للمطالبة بالتعويض المالي عن الأضرار الصحّية والمجتمعية والاقتصادية والبيئية الناتجة. في موازاة ذلك، يجب على الخبراء القانونيين اللبنانيين أنّ يظلّوا على اطّلاع دائم على الأطر ومؤتمرات القمّة الناشئة، مثل صندوق الخسائر والأضرار ومؤتمر الأطراف. وينبغي استخدام هذه السبل لإنشاء سوابق وتعميم القدرة على المطالبة بالتعويض عن الأضرار البيئية أثناء الصراع.
هل من إمكانية لتنظيف الأراضي التي تضرّرت؟
يمكن توثيق المخلّفات الكيميائية الناتجة من الصراعات، بما في ذلك الفوسفور الأبيض، ومعالجتها من خلال إستراتيجيات محدّدة لإزالة التلوث. يمكن الدروس المستفادة من مشاريع إزالة التلوّث المنفّذة في سياقات مختلفة، أن توفّر الوضوح حول كيفية معالجة المناطق المتضررة. ومع ذلك، يجب تكريس جهود بحثية إضافية ومحلّية لتعزيز المعرفة العالمية بشأن هذا الموضوع. ويجب أن تركّز هذه الجهود أيضًا على زيادة قدرات مشاريع إزالة التلوث. يمكن الحلول القائمة على الطبيعة أن توفّر وسائل لاستعادة الموائل الطبيعية بتكاليف أقل وبوتيرة أسرع.
إنّ شرعية استخدام الفوسفور الأبيض في الحرب هي موضوع مثير للجدل. ولا يمكن وصف الفوسفور الأبيض، بالمعنى الدقيق للكلمة، بأنّه "سلاح حارق" أو "سلاح كيميائي".
هل من إمكانية لمعاقبة اسرائيل؟
تنظم اتفاقية أسلحة تقليدية معينة (CCW)، وتحديدًا بروتوكولها بشأن حظر استخدام الأسلحة المحرقة (البروتوكول الثالث) أو تقييده، استخدام الأسلحة المحرقة. صُمّم الفوسفور الأبيض لاستيلاد الدخان وإضاءة الأهداف وتمويه القوات البرية. وبموجب اتفاقية الأسلحة التقليدية، لا تعتبر خصائص هذه الأسلحة الحارقة هي الغرض الكامن وراء استخدامها في الصراعات، بل هي تأثير عرضي. لذلك، وفقًا لتعريف البروتوكول الثالث، لا تُصنّف ذخائر الفوسفور الأبيض "سلاحًا حارقًا"، على عكس النابالم أو قاذفات اللهب، على سبيل المثال لا الحصر.
يتمّ تنظيم استخدام الأسلحة الكيميائية من خلال اتفاقية حظر استحداث الأسلحة الكيميائية وإنتاجها وتخزينها واستخدامها الأسلحة وتدمير تلك الأسلحة (CWC). ومع ذلك، لا تعتبر جميع الذخائر ذات الخصائص الكيميائية الضارة أسلحة كيميائية بموجب المعاهدة. وعلى الرغم من أن الفوسفور الأبيض هو عامل كيميائي، فهو لا يخضع لاتفاقية الأسلحة الكيميائية لأنّه لا يستخدم في المقام الأول لإلحاق الضرر من خلال التفاعل مع فسيولوجيا الإنسان. علاوة على ذلك، فإنّ مادّة رباعي الفوسفور، وهي المادّة الموجودة في هذه الذخائر، ليست مدرجة كمادّة كيميائية في ملاحق اتفاقية الأسلحة الكيميائية.
وبموجب القانون الدولي الإنساني العرفي، المُطبق على جميع الدول، فإنّ استخدام الأسلحة أو أساليب الحرب التي تسبّب خسائر غير ضرورية أو معاناة مفرطة محظور تمامًا. كما يطلب القانون الإنساني الدولي العرفي من الدول اعتماد جميع الاحتياطات الممكنة لتجنّب إلحاق الضرر بالمدنيين بسبب الأسلحة الحارقة.
ومع ذلك، تسبّب ذخائر الفوسفور الأبيض في النزاعات حول العالم ضررًا مباشرًا وغير مباشر في صفوف المدنيين وفي ممتلكاتهم نتيجة التفاعلات الكيميائية بين المادّة والأوكسجين.
ومن المهم أن نعرف أنه في حين وافق لبنان على اتفاقية الأسلحة التقليدية، فإن إسرائيل تظل واحدة من الدول القليلة التي لم تفعل ذلك. علماً أنّ القانون الدولي العرفي هو إطار قانوني يُطبّق على جميع الدول.
باختصار، قد لا يكون حظر استخدام الفوسفور الأبيض سهلاً كما يبدو، نظرًا للثغرات العديدة في اللوائح الدولية. وبما أنّ إسرائيل تستهدف المناطق المدنية في جنوب لبنان بالفوسفور الأبيض، فمن الممكن بذل الكثير من الجهود لتسليط الضوء على انتهاكات القانون الدولي. ويدعو التهديد المستمر إلى بذل جهود مشتركة لمنع استخدام الفوسفور الأبيض في الصراعات ومحاسبة مجرمي الحرب.