لا ريب أنّ أهمّ ما خرجت به الجلسة النيابية الأخيرة المخصّصة لمناقشة قبول حكومة تصريف الأعمال "الهبة الأوروبية" مقابل إبقاء النازحين السوريين في لبنان أربع سنوات إضافية، بحسب المعلومات المتداولة في وسائل الإعلام، قبل أن ينفيها رئيس الحكومة نجيب ميقاتي، ويوضح "أن هذه الهبة غير مشروطة ببقاء النازحين"، هو وحدة الموقف اللبناني في رفض أن يكون لبنان "بلد لجوء" أو "حارسًا بحريًا" لدى بعض الدول. وبالتالي تراجعت بعض القوى الداخلية عن مواقفها السابقة الرافضة عودة النازحين السوريين إلى ديارهم، والتنسيق مع الحكومة السورية لتنظيم المصالح المشتركة وحلّ القضايا العالقة بين لبنان وسوريا، وفي مقدّمها قضية "النزوح". لذا صار بإمكان السلطات اللبنانية فرض موقفها الموحّد من القضية المذكورة على القوى والدول المؤثّرة في الواقع السوري والمعنيّة بالنزوح، تحديدًا الاتحاد الأوروبي والدولة السورية معًا.
على أن يتمسك لبنان الرسمي بهذا الموقف، وأن تستمر الحكومة اللبنانية في تحرّكاتها الرّامية إلى إنهاء أزمة النزوح، أو على الأقلّ، التوافق على خطةٍ أو تفاهمٍ مع الدول المعنية بـ"النزوح" لإنهائه. ولكن يبقى الأهم هو تجاوز غالبية مكونات المجلس النيابي الخلافات والتباينات في شأن عودة هؤلاء النازحين إلى ديارهم السورية، التي تنعم راهنًا بمناطق آمنةٍ وواسعةٍ"، على حد قول مرجع لبناني قريب من فريق "الثنائي الشيعي". ويؤكّد المرجع نفسه أن "الخطوة الجدية والعملانية الأولى لإعادة النازحين إلى بلادهم، تكون عبر انعقاد طاولةٍ مشتركٍة لحكومتي بيروت ودمشق من أجل وضع خطةٍ لـ"العودة"، لا من خلال تكليف ضابط أمنٍ لبنانيٍ، بالتنسيق مع السلطات السورية في هذا الشأن". ويختم: "الأمن اللبناني في تصرّف الإدارة السياسية وليس العكس، فقد تشرف الأجهزة الأمنية على تنفيذ قرار "العودة" الذي تتخذه هذه الإدارة".
غير أنّ رئيس حركة "البناء الوطني" (التي تدور في فضاء المجتمع المدني) المحامي الدمشقي أنس جوده يلفت إلى أن "لا أحد يستطيع إنكار استتباب الأمن في مناطقٍ عدةٍ في سوريا، لكنّ هناك اختلافًا بين الجهات المحلّية والإقليمية والدولية المؤثّرة في الأزمة السورية، في شأن المعايير المتبعة في تحديد "المناطق الآمنة".
ويوضح أنّ "بعض السوريين يعتبرون أنّ المناطق المذكورة، لا تصبح آمنةً، إلّا بعد التوصّل إلى حلٍّ سياسيٍ للأزمة الراهنة، عبر تطبيق القرار الدولي 2254، وبعضهم الآخر يعتبر أنّ تصنيف تلك المناطق بالآمنة مرتبط بمدى التعافي فيها، وهذا ما يضمن صون كرامة الإنسان وعيشه الكريم في الحد الأدنى، كتأهيل البنى التحتية: كهرباء وماء ...".
وبحسب جودة "كي تتحقّق هذه العودة المرجوة، لا بدّ من أن ترتكز على نقطتين أساسيتين:
أولاً- التنسيق السياسي والأمني الكامل مع الحكومة السورية، فالقضية كبيرة وتتطلّب تنسيقًا على مستوىٍ عالٍ، كونها تتعلّق بعودة مئات آلاف المواطنين السوريين إلى وطنهم". وهنا نوّه جودة بالخطوات التمهيدية لـ"العودة " التي اتخذها المدير العام السابق للأمن العام اللواء عباس ابراهيم، خلال وجوده على رأس عمله في الأعوام الفائتة، من حيث "التحقّق الأمني في ملفات النازحين الراغبين في العودة، لدى الجهات السورية المختصّة، لتلافي توقيف أيّ عائد، وذلك بمراقبة من الأمم المتحدة. وفي الوقت الراهن، لا مانع من إشراكها أي (الأمم) في مراقبة قوافل العائدين، إذا حصل ذلك بطريقةٍ مناسبةٍ وشفافةٍ، وبالتنسيق مع المبعوث الخاص للأمين العام للأمم المتحدة إلى دمشق، وهذا الأمر لا يمكن إنجازه من دون التفاعل مع الحكومة السورية.
ثانياً- القسم الأهم الذي يرتكز عليه تحقيق عودة اللاجئين الى أرضهم، هو توفير الدعم اللازم لذلك، غير أنّ غالبية الدول لا تزال ترفض البدء بعملية إعادة إعمار ما هدّمته الحرب الكونية على سوريا، قبل تبلور عملية سياسيةٍ لإنهاء الأزمة في هذا البلد، فلا "مال خارجي" إلى دمشق قبل ولوج الحلّ السياسي، ولكن رغم هذا الرفض، هناك إطار ما، يتم التوافق عليه بين القوى المؤثّرة في الواقع السوري، وهو التعافي المبكّر"، ويسمح بحدٍ أدنى من المساهمة في إعادة تأهيل بعض المشاريع البسيطة الضرورية، كترميم بعض البنى التحتية لتأمين عودة المواطنين السوريين إلى منازلهم"، على حد قول جوده.
بناء على ما ذكر آنفًا، لا يمكن حلّ أزمة اللاجئين السوريين في دول الجوار بشكلٍ فوريٍ، ولكن يمكن العمل على تخفيف معاناة الأكثر تضرّرًا منهم، كي يعودوا إلى أرضهم. واللاجئون الموجودون في لبنان هم من الأكثر معاناة، وفي حاجةٍ إلى العودة إلى وطنهم الأم، لذا لا بد من إجراء عملية تصنيف لأوضاع اللاجئين على المستوى الاجتماعي.
ويأمل جوده "إخراج قضية النازحين السوريين إلى لبنان من "بازار المزايدات السياسية الداخلية"، وتأمين دعمٍ وطنيٍ كبير للحكومة اللبنانية كي تذهب إلى وضع خطةٍ مشتركةٍ موحدةٍ مع نظيرتها السورية، لإعادة النازحين، وتفاهم الحكومتين على تنظيم مختلف المصالح المشتركة بين البلدين وإعادة تفعيلها، لما فيه خير الشعبين الشقيقين". ويختم: "لا ريب أن وحدة الموقف اللبناني- السوري من هذه القضية وسواها، يمكّن البلدين من فرض "إيقاعهما" على دول الاتحاد الأوروبي وسواها من الدول التي تعوق "العودة"، و لاحقًا قد يُعقد مؤتمر لتحقيقها بالاشتراك مع الدول المعنية باللجوء والمانحة والمنظمات الدولية".
لا يمكن حلّ أزمة اللاجئين السوريين في دول الجوار بشكلٍ فوريٍ
وفي السياق نفسه، يشير الباحث في الشأن السياسي الدكتور أسامة دنّورة إلى أنّ "المحور الغربي لا يزال متمسكًا بقراره الرافض عودة النازحين إلى بلدهم، وفي الوقت عينه يرفض الالتزام بالقرار الدولي 2642، الذي يقضي إلى "التعافي أو الإنعاش المبكّر " في سوريا، ومن ثم البدء في كسر الحصار الاقتصادي عنها، لتمويل بعض المشاريع الإنمائية الضرورية بغية تأمين عودة الحياة شبه الطبيعية إلى المناطق التي دمّرتها الحرب، تمهيدًا لعودة المواطنين السوريين إلى مناطقهم، إذ لا يمكن الإتيان بنازحٍ يتلقى المساعدة في لبنان إلى سوريا الواقعة تحت الحصار الاقتصادي، وترك هذا النازح لمصيره في بلده، أي قذفه نحو المجاعة و الأمراض"، على حدّ تعبير دنورة.
ويقول: "بالطبع، إنّ طريق بيروت- دمشق هي أقصر من طريق بيروت- نيويورك- جنيف، وبالتالي من يعرقل تواصل الحكومة اللبنانية مع نظيرتها السورية، فهو يطيل أمد أزمة النزوح السوري إلى لبنان".
أما في ما يتصل بالضمان الأمني لعودة من يرغب من اللاجئين السوريين إلى بلده، "فهو بات مضمونًا من خلال استصدار الرئيس السوري بشار الأسد قوانين العفو، في حين أن توافر الأمن الاجتماعي والاقتصادي لهؤلاء النازحين متعلّق بعملية الإنعاش المبكّر"، بحسب تأكيد دنورة.
ويدعو دنورة إلى توحيد موقف البلدين من هذه القضية المحقة، وفرضه على المجتمع الدولي، وممارسة مختلف الضغوط المتاحة عليه، منها فتح البحر أمام المهاجرين نحو القارة الأوروبية، للخروج من حال المراوحة الغربية الراهنة حيال موقفها من قضية النزوح، والذهاب إلى تنفيذ القرار 2642، (الإنعاش المبكّر)، وهكذا يربح لبنان في التخفيف من حدة أزمته الاقتصادية من خلال عودة النازحين، وتربح سوريا في استعادة ثروتها البشرية، وتربح أوروبا في منع حدوث موجةٍ جديدة من اللجوء نحو بلدانها، ولكن هذا يقتضي ممارسة ضغطٍ فعالٍ على الجانب الغربي. يختم دنورة.