أنْ تحلّ لؤلؤة المتوسط، العاصمة التي حازت يوماً لقب "فندق العرب"، في أسفل قائمة معدّل الحجوزات الفندقية بين المدن العربية، ففي الأمر ما يُستحقّ التوقّف عنده. وما يزيد الأمر غرابة استهجان أصحاب الفنادق المخضرمين هذا الواقع غير المسبوق، حتّى في أسوأ مراحل التسعينيات والعقدين الماضيين. السياح التقليديون "فصّ ملح وذاب"، على حدّ وصف أحد الظرفاء، والمغتربون لا ينزلون في الفنادق، والدولة تضع على "مسنّ" الخسائر "زيت" عجزها عن تأمين أبسط الخدمات والبنى التحتية المؤهّلة لخدمة القطاع السياحي، وتثقل عليه بالضرائب والرسوم، كما لو أنّها "تقتل الدجاجة" التي لطالما "باضت" ذهباً للبنان.
أظهر أحدث مسح معياري EY- Ernst & Young لقياس أداء الفنادق في الشرق الأوسط لشهر كانون الثاني من العام الجاري، انكماش معدّل الإشغال في فنادق بيروت بنسبة كبيرة. إذ بلغت نسبة إشغال فنادق الأربع والخمس نجوم في العاصمة 20 في المئة فقط، مقارنة بـ 37 في المئة في الفترة نفسها من العام الماضي، وبتراجع وصلت نسبته إلى 17 في المئة. وعليه، احتلّ معدّل الإشغال في بيروت المرتبة 13 بين 13 مدينة إقليمية شملها الاستطلاع. وقد تفوّقت على بيروت مباشرة مدينة الكويت وعمان بنسبة إشغال بلغت 43 و41 في المئة على التوالي. فيما احتلّت مكّة المكرّمة المرتبة الأولى على مستوى الشرق الأوسط بنسبة إشغال بلغت 89 في المئة.
توالي الخسائر
ممّا لا شكّ فيه أنّ الحرب المستمرّة على قطاع غزّة وجنوب لبنان منذ تشرين الأول 2023، أصابت القطاع السياحي اللبناني في الصميم. "فشهد الربع الأخير من العام الماضي، والأشهر الأربعة الأولى من العام الجاري تراجعاً كبيراً في نسبة الحجوزات الفندقية"، بحسب المستشار في الخدمات السياحية والفندقية نجيب نعمه. "وحقّق القطاع بشكل عام خسائر كبيرة نتيجة النموّ السلبي خلال سبعة أشهر متتالية".
بحسب الأرقام، تتطلّب الفنادق من فئة الأربع والخمس نجوم نسبة إشغال لا تقلّ عن 50 في المئة كي لا تتكبد خسائر. بمعنى أدقّ، يتعيّن عليها بيع نصف الغرف بشكل متواصل على مدار العام لتصل إلى نقطة التعادل، حيث تتساوى التكلفة الإجمالية وإجمالي الإيرادات. أي ليس هنالك ربح ولا خسارة. وعليه، فإنّ انخفاض نسبة الإشغال عن 50 في المئة يمثّل خسارة حتمية للفندق. وتتحمّل الفنادق ذات الأسماء العالمية كلفة مضاعفة. إذ عدا الخسارة المحققة نتيجة تراجع الأشغال، وبالتالي زيادة النفقات عن الإيرادات، فهي ملزمة بدفع ثمن الاسم الذي تحمله للشركة الأمّ، ومجبرة على تطبيق معاييرها العالمية في الخدمات التي تقدّمها. ومن غير الممكن تخفيض جودة خدماتها أو اعتماد سياسة توفيرية معيّنة من أجل الحد من الخسائر. وبالتالي، تصبح عرّضة أكثر من غيرها لخطر الخروج من السوق. خصوصاً إذا طالت فترة الأزمة، وفاقت الخسائر الحد الموضوع في حساب الربح والخسارة. وهو الحساب الذي يختلف بين مؤسسة وأخرى.
فقدان مقياس تطور السوق
أكثر من ذلك، فإنّ التقلّبات الحادّة والسريعة التي بدأ يشهدها لبنان من العام 2005 بشكل عام، وفي سنوات الانهيار ما بعد العام 2019 بشكل خاص، "أفقدت المستثمرين المقياس الذي يحدّد كيفية تطوّر السوق"، بحسب نعمه. "في الماضي، كان هذا المقياس مقسّماً كالتالي: موسم الذروة peak season يستمرّ ثلاثة أشهر، والموسم الضعيف low season يمتد أيضاً ثلاثة أشهر، وستة أشهر ما بين بين، يعرف بعالم الاعمال بـ shoulder season. اليوم، في ظلّ هذه الظروف الصعبة، يمرّ القطاع بموسم أكثر من ضعيف على مدى سبعة أشهر".
سعر الغرفة تراجع أيضاً
بالتزامن مع انخفاض الطلب على الغرف في فنادق الأربع والخمس نجوم، تراجع السعر أيضاً. إذ يمكن أن ينخفض سعر الغرفة في فندق الخمس نجوم عن 180 دولاراً في الموسم الضعيف. وهذا نتيجة طبيعية لآلية العرض والطلب في السوق حيث ترتفع الأسعار مع ازدياد الطلب وتراجع العرض والعكس صحيح. وتفيد أوساط فندقية بأنّ الفنادق المرموقة في العاصمة تمرّ بمرحلة حرب أسعار price war من أجل الصمود. وقد تراجع سعر الغرفة في فنادق الثلاثة نجوم إلى 50 دولاراً.
المساهمة السلبية للدولة
جزء كبير من "النكبة" التي يمرّ بها القطاع الفندقي في لبنان يعود إلى الدولة التي تلعب دوراً ملتبساً. فهي حاضرة لفرض الضرائب والرسوم، وغائبة عن تأمين أبسط الخدمات، وفي مقدّمتها الكهرباء. ففي الوقت الذي تراوح فيه كلفة الكهرباء والمياه على القطاع الفندقي بين 10 و15 في المئة حدّاً أقصى من مجمل التكاليف في الدول القريبة والبعيدة، تصل هذه الكلفة في لبنان إلى 35 في المئة. وذلك بسبب الانقطاع شبه التام للكهرباء المحتكرة من قبل الدولة، واضطرار الفنادق إلى تشغيل مولّداتها 22 ساعة من أصل 24 ساعة. فمن أصل كلّ مئة دولار تصل إلى الفندق، يدفع منها 35 دولاراً ثمناً لتوليد الكهرباء. يضاف إلى هذه الكلفة الباهظة، ارتفاع كلفة السفر إلى لبنان، وخصوصاً من الدول العربية المحصورة بالناقل الوطني. وعدم تسهيل الدولة تأشيرات الدخول، وعدم توفيرها متطلّبات الأمن والأمان، والإضرابات في القضاء والمرافق العامّة، وسوء وضع الطرق.
لعلّ أفضل ما يحصل عند تشريح المشكلات التي لا تنتهي، ومنها مشكلات القطاع السياحي في حالته الراهنة، هو وضع الإصبع على الجرح. فالسياسة المتّبعة في لبنان بالتعامل مع القطاع السياحي، أو "اللاسياسة"، توحي من النّظرة الأولى أنّ الدولة تربح من فرض المزيد من الضرائب والرسوم. أمّا إذا تعمّقنا قليلاً فنلاحظ أنّها تخسر مرّتين: المرّة الأولى بشكل مباشر من خلال عجزها عن تأمين الكهرباء والمياه والحصول على العائدات بدلاً من أصحاب المولّدات والصهاريج. والمرة الثانية، وهذه الخسارة الكبرى، لدى تراجع المداخيل من القطاع السياحي الذي يسهم بالنسبة الكبرى من النّاتج المحلّي. وقد بيّن تقرير للبنك الدولي أنّ مساهمة السياحة من الناتج بلغت في الفصول الثلاثة الأولى من العام 2023 حوالى 26 في المئة. وكلّما تراجعت أعداد السياح نتيجة كلّ ما تقدّم، وزادت التكاليف، انخفض الاستثمار في القطاع السياحي، وتقلّصت فرص العمل، وهاجر الأكفّاء. وبالتالي، تضمحل إيرادات الدولة وتخسر حربها لتحقيق النموّ.