أكثر من المرّات السابقة، بات احتمال التوصّل إلى هدنة للحرب على غزّة كبيراً. المصادر المعنيّة بالشأن الفلسطيني تقول إنّ المباحثات صارت في الربع الساعة الأخير أو المخاض الأخير، والخلاف الحاصل حالياً هو على رفض إسرائيل وقف إطلاق النار في المرحلة الأولى، وسعيها إلى استكمال عملياتها في غزة ورفح. لا شيء مؤكداً بعد في وجود رئيس وزراء إسرائيل بنيامين نتنياهو، لكن نسبة التفاؤل هذه المرة أعلى من المرّات السابقة. والسؤال التابع لأيّ اتفاق لوقف النار يكون متعلّقاً بجبهة الجنوب التي فتحها حزب الله إسناداً لغزّة، فهل تتوقف الحرب الدائرة بين إسرائيل والمقاومة في لبنان فور الإعلان عن هدنة غزّة، أو بمعنى آخر، هل تنطبق هدنة غزة، متى تحقّقت، على الجنوب اللبناني؟
كلّ مرّة يتكرر السؤال على مسامع حزب الله، يكون جواب المسؤولين فيه هو أنّ جبهة الجنوب ولدت على أنّها جبهة إسناد لغزّة، ومتى أوقفت إسرائيل حربها ضدّ غزّة، فإنّ هذه الجبهة ستتوقّف حتماً. لكنّ آراء أخرى، مستندة إلى تحليلات إسرائيل ومواقف مسؤولين في حكومتها، تقول إنّ تل أبيب التي شاهدت قدرات حزب الله بالقدر الذي كشف عنه، لن تسمح بأن يبقى الوضع على الحدود الجنوبية على حاله، وتريد ضمانات لوقف أعماله العسكرية وتراجع قواته إلى ما وراء الليطاني. وبسبب حجم اعتداءاتها منذ السابع من تشرين الأول، فإنّ إسرائيل تعمّدت إنشاء حزام أمني أو منطقة أمنية على طول خطّ التماس مع لبنان، بعد تدمير المنازل وتهجير السكّان وتحويل مساحات واسعة أرضاً قاحلة، إلاّ من بقايا المنازل المدمّرة. وقد تعمّدت استخدام قذائف فوسفورية محرّمة دولياً لتحويل الأراضي على الجانب اللبناني أرضاً محروقة. تريد إسرائيل ضمانات لن تتوافر إلّا بانسحاب حزب الله وإقامة منطقة عسكرية عازلة، كما ورد في الورقة الفرنسية ونشر الجيش ومنح اليونيفيل صلاحيات واسعة من دون تنسيق مع الجيش. هذه شروط يرفضها حزب الله إلّا متى التزمت إسرائيل وقف طلعاتها الجوية والانسحاب وترسيم الحدود البرية مع لبنان. مخاض عسير يتطلّب جهداً شبيهاً بذلك الجهد الذي انتهى إلى ترسيم الحدود البحرية، وهذا ما يجعل عودة الهدوء إلى الجنوب موضع شكوك.
حتّى رئيس حكومة تصريف الأعمال نجيب ميقاتي كان لافتاً تصريحه قبل أيام، وخلاصته أنّ الهدنة في غزّة قد لا تعني حكماً هدنة في الجنوب. ولكلامه هذا أبعادٌ ومعطيات، هو العائد من الأليزيه وعلى تماس مع مسؤولين أوروربيين، وقد أُبلغ مرات عدة بأنّ إسرائيل تنوي التفرّغ لجبهة الجنوب فور الانتهاء من غزّة، وأنّها لن ترضى بإبقاء الواقع في الجنوب على حاله.
من المستبعد أن تستكمل إسرائيل عملياتها ضدّ لبنان
لكنّ كلاماً كهذا لا يُعطى أهمية كبيرة من جانب حزب الله الذي يعتبر أنّ طرفي الحرب يسعيان إلى تحسين شروط التفاوض على صفيح ساخن، وهذا ما تسعى إليه إسرائيل باعتداءتها على الجنوب اللبناني وبدخولها إلى رفح. ويستبعد فصل الجبهتين في حال الاتفاق على وقف إطلاق النار، ويقول إنّ عملياته ستتوقّف حكماً متّى أوقفت إسرائيل اعتداءاتها داخل غزّة. ولكن إن واصلت اعتداءاتها على القرى والبلدات الجنوبية فهذا يعني فتح الجبهة على وسعها، وليس مستبعداً عندئذ دخول المنطقة بأكملها في حرب واسعة.
وتقول مصادر مطّلعة على موقف حزب الله إنّه سيكون مرناً من حيث وقف عملياته فور إعلان وقف النار على غزّة، وتذهب أبعد إلى حدّ القول إنّه فور الإعلان عن الهدنة فإنّ لبنان سيشهد حراكاً واسعاً لتحديد مرحلة ما بعد غزّة، وسيحضر الموفد الأميركي آموس هوكستين مباشرة للاتفاق على الورقة التي سبق أن تقدّم بها على شاكلة أفكار حول تنفيذ القرار 1701 وعودة الاستقرار والهدوء إلى المنطقة المحاذية لضمان عودة المستوطنين إلى مستوطناتهم عند الحدود الشمالية.
أمّا في ما يتعلق بالورقة الفرنسية التي نسفها الردّ اللبناني الرسمي من أساسها، فليست ذات جدوى بعد الهدنة، إذ لا مكان لفرنسا في مرحلة البحث عما بعد غّزة، وهي لا تستطيع منح الجانبين اللبناني والإسرائيلي ضمانات كي تدخل على خطّ التسوية. وتمضي المصادر قائلة إنّ الولايات المتحدة هي اللاعب الأساسي. ولذا فإنّ المرحلة المقبلة بعد اتفاق الهدنة ستحرّك الكثير من الملفات، ومن بينها ملف رئاسة الجمهورية، بدليل استضافة قطر عدداً من المسؤولين اللبنانيين تمهيداً لفتح ملف الاستحقاق الرئاسي مجدداً.
وتقول المصادر المطّلعة على موقف حزب الله إنّه من المستبعد أن تستكمل إسرائيل عملياتها ضدّ لبنان بعد الهدنة، لأنّ موقفها سيكون حَرجاً، وستسعى أميركا إلى لجمها حكماً، لأنّها لا تريد توسعة رقعة الاعتداء على لبنان. ولذلك سيكون قرار وقف الجبهة في يد حزب الله وستلتزمه إسرائيل لحاجتها إلى وقف جبهة استنزاف استمرّت ثمانية أشهر، وتكبّدت بسببها خسائر اقتصادية وبشرية كبرى آثرت التكتّم عليها.
بمعزل عن التوقّعات والتحليلات، فإنّ نتنياهو تعمّد فتح جبهة رفح، ويصرّ على استكمالها. فهل يدخل ذلك في سياق رفع سقف التفاوض أم تكريس واقع جديد؟ أو أنّ نتنياهو ينوي استكمال عملياته العسكرية رغم الضغوط، وأنّ النهاية ستكون بعد توجيه ضربة محدودة، ولكنْ قوية في الجنوب اللبناني؟
لا يمكن الحسم سلباً أو إيجاباً والأوضاع مفتوحة على كلّ الاحتمالات يقول حزب الله، وإن كان يجزم أنّ الهدنة ستسري على الجنوب، وأنّ إسرائيل بغنى عن جبهة جديدة ستفتح معها باب جهنّم متى اشتعلت.