أظهر الانهيار في لبنان نوعاً من "الطفرة" الاقتصادية، التي يمكن وصفها بالجينية الضارّة. ففي حين تعبّر الحالة الأولى عن الانتعاش الاقتصادي " BOOM"، تركت الطفرة، بمعناها الجيني، تشوّهات خلقية هائلة على مختلف القطاعات في السنوات التي أعقبت الانهيار.
يفترض المنطق الاقتصادي أنّ "تؤدّي زيادة العرض حتماً إلى انخفاض السعر". إلّا أنّ هذه "الآلية الخفيّة" في الأسواق الحرّة لم تنطبق على واقع العمالة الزراعية في لبنان. فعلى الرّغم من زيادة أعداد العاملين، ولا سيما الأجانب منهم، أضعافاً مضاعفة، ومعاناتهم، مثل اللبنانيين، من نسبة بطالة مرتفعة وصلت بين الأسر المهاجرة في العام 2023 إلى 46 في المئة، بحسب منظمة REACH، ارتفعت كلفة اليد العاملة بمقدار الضعفَيْن مقارنة بالعام 2019، بدلاً من أن تنخفض.
أجرة الساعة تتضاعف
تفيد أوساط المزارعين في سهل البقاع بأنّ أجرة الساعة للعامل الزراعي ارتفعت من 750 ليرة، (كانت تعادل نصف دولار في العام 2019) إلى 135 ألفاً (تعادل 1.5 دولار تقريباً، اليوم). وعليه، أصبحت يومية العامل الزراعي (5 ساعات عمل) تكلّف المزارع أكثر من 700 ألف ليرة يومياً. إذ يضاف إلى أجرة الساعات الخمس المقدرة بـ 675 ألف ليرة، دفع مبلغ مقطوع عن كلّ عامل إلى "شاويش" الورشة الزراعية المسؤول عن تأمين اليد العاملة، ولا سيما النسائية منها، التي تعمل في قطف المواسم. واستحصال العمّال على جزء من الإنتاج. "وتمثّل هذه الكلفة عبئاً كبيراً على المزارعين"، بحسب أوساط نقابية معنية. "فما يجنيه المزارعون من أرباح طفيفة من فرق السعر بين الكلفة المرتفعة وسعر المبيع الزهيد بالجملة، لم يعد يكفي أجرة العمّال والنّقل و"أشاوس" الورش. وهذا العبء الكبير سيضاف إلى سعر المنتج النهائي، ويؤدّي إلى ارتفاع الأسعار على المستهلك النّهائي. وفي ظلّ إقفال طرق التصدير البرّية وعرقلة البحرية، ستكسد البضائع فيخسر المزارع والمستهلك على السواء، ويتفاقم التضخم.
استغلال الحاجة
ارتفاع أجرة العامل بالساعة في مجال جني المحاصيل وقطاف الخضراوات وجمع البطاطا، يقابلها طلب العمّال الزراعيين أجرة مضاعفة مقطوعة لبقية الأنشطة الزراعية. فيومية العامل في مجال قطاف الزيتون أو الحراثة أو شقّ قنوات الرّيّ أصبحت تتراوح بين 15 و 20 دولاراً، ذلك مع العلم أنّها لم تكن تتجاوز 10 دولارات على سعر صرف 1500 ليرة قبل الانهيار. والسبب لا يعود، بحسب أحد المزارعين، إلى عدم توفّر اليد العاملة الكافية (ندرة العرض)، إنّما إلى "استغلال العمّال حاجات المزارعين". فهم يعلمون مثلاً أنّ قطاف العدس لا يحتمل التأخير، وإلّا "هرّ بأرضه"، ويخسر المزارع الملايين. لذا يطالبون بسعر أعلى للعمل في هذا المجال".
بالإضافة إلى ارتفاع كلفة اليد العاملة، يواجه أصحاب الأراضي الزراعية معضلة "ضمان الأرض". فالمستثمرون، ولا سيما الأجانب منهم، يتحكّمون بسعر الضمان ويشترطون دفع مبالغ زهيدة جداً أو إعطاء صاحب الأرض جزءاً من الإنتاج لا يتعدّى الربع أو الثلث. ونتيجة عجز بعض المزارعين من أصحاب الأراضي عن استثمار أراضيهم بأنفسهم بسبب ارتفاع تكاليف المواد الأولية واليد العاملة وتحكّم التجار بالأسعار، يلجأون إلى تضمينها إلى العمّال الأجانب، الذين يشغّلون أفراد أُسرهم، وبينهم النساء والأطفال، في الأرض، فيقللون من التكاليف، وخصوصاً كلفة اليد العاملة. وذلك من دون إجراء أيّ معاملات قانونية تضمن حق صاحب الأرض.
النقابات الزراعية ترفع الصرخة
إزاء هذا الواقع، عقد رؤساء النقابات الزراعية في البقاع اجتماعاً استثنائياً لمتابعة موضوع العمالة في القطاع الزراعي، وصدر عن المجتمعين بضع توصيات، أهمّها:
- التواصل مع الجهات الرسمية اللبنانية المعنية وصاحبة الصلاحية في المحافظات لعقد لقاء يتمّ التطرق فيه إلى مشكلات اليد العاملة الزراعية وتداعياتها على القطاعين الزراعي والاستهلاكي، ووضع آلية لتحديد أجرة العامل الزراعي اليومي، وتنظيم عدد ساعات العمل.
- تنظيم تأجير الأراضي الزراعية إلى مستثمرين أجانب وحصرها بالأطر القانونية بموجب عقود إيجار رسمية لدى الجهات المختصّة لضمان حقّ المالك اللبناني والمستثمر الأجنبي.
مناشدة جميع المزارعين اللبنانيين التنسيق في ما بينهم، والاطّلاع من النقابات الزراعية على الخطط والحلول التي ستوضع لتنظيم العمل الزراعي وتوحيد أجرة العمّال، وذلك لتخفيف تكاليف الإنتاج وضمان حقّ العامل. والسعي إلى الحدّ من استغلال بعض مسؤولي الورش الزراعية للمزارع والعامل.
وبحسب معلومات خاصة بـ "الصفا نيوز"، فإنّ المزارعين يرون أنّ الأجرة العادلة للعامل الزراعي عن الساعة الواحدة يجب ألّا تتعدّى 60 ألف ليرة، وبمعدّل 5 ساعات عملاً.
التعميم يؤثّر سلباً في المنتجين
لا تقف مشكلات المزارعين عند حدود، فارتفاع التكاليف الإنتاجية وتسكير أبواب التصريف الخارجية وانعدام كلّ أشكال الدعم والتعويض عن الخسائر الطبيعية... إنّما تمتدّ إلى أمرين أساسيين: تشويه السمعة، وتحكّم تجار الجملة. ولعلّ ما حصل مع الفريز خير دليل على عدم تقدير عواقب صبغ منتج معيّن بالفساد، وتسبّبه بأمراض السرطان. إذ يؤكّد نقيب مستوردي ومصدّري الخُضر والفاكهة نعيم خليل أن "التقرير الصادر عن مصلحة الأبحاث العلمية الزراعية Lari، لا يشمل كلّ الفريز في لبنان، إنّما الفريز الذي يباع دكمة، وعلى العربات والبسطات على جوانب الطرق. في حين أنّ الفريز المنتج لبنانياً هو مطابق للمواصفات". ونقل خليل عن مصلحة الأبحاث "تمنّيها على كلّ مزارع فريز يريد فحص إنتاجه، جلب عيّنة الى مختبر الفنار للتحقق من مطابقته للمواصفات. علماً أنّ الفريز اللبناني مُصدّر الى الخارج، أي أنّه جيّد". كما أكّد خليل في السياق عينه أنّ "الحديث عن موجة جراد غير صحيح. ومن المتعذر وصوله إلى لبنان لأنّ الرياح شمالية غربية باردة معاكسة للرياح الجنوبية التي تجلب الجراد". ويسجل المزارعون ارتفاع أسعار مبيع المنتجات الزراعية في أسواق المفرّق بمقدار الضعفيْن إلى ثلاثة اضعاف عن سعر المبيع إلى تجار الجملة و"الحسبة". وهذا ما يرتدّ سلباً على المزارعين والمستهلكين والاقتصاد على السواء.
كما قد يؤدي زواج القربى إلى نشوء تشوّهات في الولادات، فكذلك أدّى تزاوج المصلحة بين السلطة بشقّيها التنفيذي والتشريعي مع الاحتكارات، والمصالح الطائفية، وبعض المستوردين وكبار التجار والمستثمرين، وقادة الأعمال... أدّى إلى الطفرة الجينية الضارّة في الاقتصاد وعطّل آلية العمل الطبيعية، التي تفترض، أقلّه، تراجع الأسعار مع زيادة العرض.