لم يبقَ العالم الرقمي محصوراً ببعض الصور ومقاطع الفيديو التي نشاركها مع أصدقائنا ومتابعينا، على وسائل التواصل الاجتماعي. بل تخطّاها بأشواط إلى عملات رقميّة وعقود تملّك وروبوتات ذكيّة وعالم مفبرك وخيالي بواسطة الذكاء الاصطناعي أو التزييف العميق... .
في ظلّ هذا التطوّر التقني الذي يجتاح العالم، انقسمت آراء خبراء التكنولوجيا بين مدافع شرس عن هذا التطوّر أيّاً كانت نتائجه، وبين محذّر من مخاطره ومطالب بإجراء بعض التعديلات التي تضمن سلامة المستخدمين وتحفظ أمن معلوماتهم. ما من أحد ينسى الصرخة التي أطلقها الرئيس التنفيذي لشركة "تسلا"، إيلون ماسك، في آذار 2023 حول المخاطر الكبيرة التي تنقلها برامج الذكاء الاصطناعي إلى البشرية، داعياً ومئات الخبراء العالميين من خلال عريضة إلى وقف مؤقت لتطوير هذه البرامج ريثما يجري ابتكار أنظمة للحماية منها.
من جهة أخرى، طُرد الشريك المؤسس لشركة OpenAI المطوّرة لبرنامج Chat GPT سام ألتمان، الذي كان يسعى إلى إطلاق المنتجات بوتيرة سريعة من أجل أهداف تجارية تتعارض مع سياسة السلامة والأمن الخاصة بـ OpenAI واتُّهم ألتمان بأنّه لم يكن صريحاً في اتصالاته مع مجلس الإدارة.
ولعلّ أكثر المواضيع التي أثارت الجدل في العالم الرقمي، بالإضافة إلى الذكاء الاصطناعي، هو الـ(NFT Non-Fungible Token) أيّ عقود التملّك الذكيّة، والعملات الرقمية،(على غرار البيتكوين والإثيريوم) لما لها من آثار سلبية، ومخاطر عالية على المستثمرين.
فتخيّل أن يكون لكّ حق امتلاك شيء غير ملموس، ولا يمكن اختباره بجميع حواسك، كأن تمتلك جزئيات الهواء، أو فكرة في رأس أحدهم، وهو ما قد يبدو ضرباً من الجنون المطلق. ولكن ماذا لو قلنا لك إنّ هذا الضرب من الجنون يكلّف مستثمريه أسعاراً خياليّة قد تصل إلى ملايين الدولارات. إذ بيعت أغلى NFT حول العالم بـ91 مليون دولار، في كانون الأوّل 2021، أمّا أغلى عملة رقمية فكانت البيتكوين التي وصل ثمنها إلى 73 ألف دولار في آذار الماضي.
فما هي الـNFT والعملات الرقمية؟ وما الفرق بينهما؟ وما هي مخاطرها الاستثمارية؟
الـ NFT هي مختصر Non-Fungible Token أيّ الرموز غير القابلة للاستبدال، وهي عقود تملّك ذكية لأصول رقمية في معظم الأحيان، ولأصول حقيقية أحيانًا. والذي يبتاع هذه العقود ويملكها، يملك أصولها.
ظهرت هذه الخاصية مذ ولدت عملة الايثيريوم عام 2013 على يد المبرمج الروسي فيتاليك بوترين، إلّا أنّ استخدامها لم ينشط إلّا في بدء 2021 إذ أصبحت ذات صيت واسع وسيولة عالية. ويعتبر كيڤن مكوي أول من جنح إلى تداول هذا الرمز محوّلاً لوحته (Quantum) إلى رمز غير قابل للاستبدال عام 2014، فأصبحت تعرض للبيع، اليوم، بما يقدر بسبعة ملايين دولار أميركي.
ما هو الفرق بين الـ NFT والعملات الرقمية؟
مع أنّ خاصية الـNFT تمكّنك من تتبّع من يملكها عبر تقنية سلسلة الكتل (Blockchain) التي بدورها تُعنى بتتبع الأصول والعملات الرقمية المختلفة لكسب ثقة المتداولين، فهي تختلف تمامًا عن العملات الرقمية، كعملة الإيثيريوم أو البيتكوين. وتُستنبط من مسماها: "رموز غير قابلة للاستبدال" على أنّ قيمة هذه الرموز أبعد من أن تكون مادية وأقرب إلى أن تكون معنوية في معظم الأحيان، إذ إنّ لكلّ من هذه الرموز سمات تختص بها دون غيرها من الأصول الأخرى، فيستحيلُ استنساخها أو استبدالها بمَثيل مطابق لها.
في هذا الإطار، يشرح الخبير الرقمي رولان أبي نجم لـ"الصفا نيوز" أنّ "الـNFT هي verification of ownership of digital asset، ففي الوقت الذي أصبح بإمكان جميع الناس تصنيع صور ومقاطع موسيقية وفيديوهات، وتوزيعها، ليس في مقدورنا معرفة من مالكها الأصلي، فجاءت الـNFT لتوثيق ملكية هذه الصناعة. أمّا البيتكوين فهي عملة مشفّرة صنعت كي لا تكون تابعة إلى مصرف مركزي، ولا قيمة فعليّة لها، على عكس الدولار وباقي العملات، إلاّ أنها تستفيد من تسويق المستثمرين الذين يدعمونها ويتوقعون وصولها، وهذا ما سيؤثّر بطبيعة الحال على عملائهم، ويدفعهم إلى الاستثمار فيها. ومع زيادة الطلب عليها يرتفع سعرها تلقائياً بناء على قاعدة العرض والطلب. والعملات المشفّرة بعامةٍ، وتحديداً عملة البيتكوين، تُستخدم بكثرة في عمليات الاحتيال والسرقة وتبييض الأموال، وعمليات الاختراق ودفع الفدية، وفي كلّ العمليات التي تحصل في عالم الـDark Web".
وأحد الأمثلة البارزة على تأثير المشاهير في حركة العرض والطلب على العملات المشفرة، تغريدة نشرها إيلون ماسك في 8 شباط 2021 هي: “اشتريت للتو بعض البيتكوين”، وأرفقها برمز تعبيري على شكل قلب مكسور. تسببت هذه التغريدة في ارتفاع سعر عملة البيتكوين 20 في المئة في الساعات التي تلت التغريدة.
وحول سعي بعض الدول لإطلاق عملات رقمية لمصارفها المركزية، أوضح أبي نجم "يجب التمييز بين إطلاق المصارف المركزية عملات رقمية، وبين العملات المشفّرة، فإذا أصدر المصرف المركزي في أميركا عملة دولار رقمية مثلاً، فستكون قيمة هذه العملة مماثلة لقيمتها الورقية، لكونها مرتبطة بالاقتصاد مباشرة، امّا العملات المشفّرة فلا قيمة لها لعدم ارتباطها بأي نظام اقتصادي، أو بأي سلعة كالذهب أو النفط".
قاعدة الـhigh risk high return of investment
وعن سبب توجّه المواطنين إلى الاستثمار في العملات المشفّرة، أجاب أبي نجم "السبب الرئيسي يكمن في قاعدة الـhigh risk high return of investment"، مضيفاً "تبدأ قيمة أيّ عملة مشفّرة من 0.000001 وبعد تسويقها عبر مؤسسات وأفراد مؤثرين، ترتفع قيمتها، عندئذ يقوم أشخاص بشرائها أو بيعها، وبالتالي، يحققون مكاسب عالية، إلاّ أنّ للأخيرة مخاطر كبيرة، إذ وصلت البيتكوين إلى 69 ألف دولار ثم تراجعت إلى الـ15 ألفاً، ثم ارتفعت إلى الـ70 ألفاً، لتعود وتنخفض إلى 57 ألفاً، على الرّغم من كلّ التوقعات بأن يتخطّى سعرها الـ100 ألف. وفي أقلّ من شهر خسرت البيتكوين الواحدة من قيمتها 15 ألف دولار، فإذا اشترى المستثمر 100 بيتكوين، يكون قد خسر 150 ألف دولار. لذلك من المستحسن عدم الاستثمار في هذه العملات، لأنّ من يربح يكون ربحه على حساب خسارة آخرين، تماماً كالمقامرة".
عمليات خداع أو نصب عالمية عبر العملات المشفرة
وأعطى أبي نجم بعض النماذج عن عمليات خداع أو نصب عالمية عبر العملات المشفّرة، ومنها:
عملة لونا، التي بدأت بقيمة منخفضة جداً، وصعدت إلى 118 دولاراً، وبعد استثمار العديد من الناس فيها، انخفضت قيمتها من 118 دولاراً إلى 0 كما بدأت، ليتبيّن لاحقاً أنّها كانت عملية نصب. وعليه، اتّهمت لجنة الأوراق المالية والبورصات الأميركية SEC شركة Terraform Labs ورئيسها التنفيذي دو كوون الذي يعتبر مؤسس العملة المستقّرة TerraUSD والعملة المشفرة لونا، بالاحتيال، بدعوى أنّه وشركته قد نسّقا عملية احتيال في الأوراق المالية لمختلف العملات الرقمية بمليارات الدولارات.
كما حُكم على رجل الأعمال سام بانكمان فرايد بالسجن 25 عاماً بتهمة الاحتيال الذي ظهر مع انهيار بورصة العملات المشفرة FTX، التي كانت ذات يوم واحدة من أكثر المنصات شعبية في العالم لتبادل العملات الرقمية.
وأدين بانكمان، 32 عاماً، بالاحتيال والتآمر، في سقوط دراماتيكي من قمة النجاح حيث أطلق عليه "ملك العملات المشفرة"، إذ وصلت ثروته ذات يوم إلى أكثر من 26 مليار دولار، بحسب تقديرات بعض الخبراء.
وحُكم على مؤسس منصة "بينانس"Binance (وهي بورصة للعملات المشفرة أُسست عام 2017)، تشانغبينغ تشاو، الثلاثاء الفائت بالسجن أربع سنوات بعد اعترافه بالتّهم الموجهة إليه والمتعلقة بعمليات غسل الأموال. واعتذر تشاو قبل جلسة النطق بالحكم عن الأخطاء التي ارتكبها بصفة كونه رئيساً تنفيذياً لمنصة "بينانس" Binance .
وعن خسائر الـNFT كشف أبي نجم عن أنّ "صورة أوّل تغريدة لمؤسس تويتر، صممت على شكل NFT وبيعت بـ2.9 مليون دولار، وعندما حاول المستثمر إعادة بيعها، باعها بـ200 دولار فقط، أي أنّه خسر قرابة ثلاثة ملايين دولار! كما أنّ جميع الـ NFT التي طرحت في الأسواق خسرت 95 في المئة من قيمتها، لأنّ جميع الناس أدركوا أنّ الـ NFT هي عمليات نصب واحتيال. أمّا بالنسبة إلى العملات المشفرة، فهناك الكثير من العملات التي اندثرت، وتكبّد أصحابها خسائر كبيرة، إلّا أنّ العملات المشفّرة لا تزال تحظى بزخم بسبب تسويق المؤثرين ووسائل الإعلام لها، فضلاً عن الضغوط السياسية، وهي لا تزال تحقق أرباحاً وخسائر بالمليارات".