لون جديد أصبح رائجاً على ياقات العمال في أنحاء العالم في السنوات الأخيرة. فمع صعود نَجم حماية البيئة و"الهوس" بدرء المخاطر عن كوكب الأرض، وُلد نوع جديد من الوظائف البيئية للاقتصاد، صَبغ ياقات عمال هذه القطاعات باللون الأخضر. فانضم "عمّال الياقات الخضر" إلى عائلة "الياقات البيض" التي ترمز للعمّال في المجال الذهني المكتبي، و"الزرق" التي تشير إلى العمّال اليدويين، و"الياقات الوردية" التي تدلّ على عمّال قطاع الخدمات التي كثيراً ما كانت تشغل النساء وظائفه. فما هي حصّة "الياقات الخضر" من الاقتصاد اللبناني؟ وما هي فرص نموّها المستقبلية؟
تشير الدراسات العالمية إلى أنّ الجهود الرّامية للحدّ من سخونة الكوكب بمقدار درجتين مئويتين، ستؤدّي إلى استيلاد فرص عمل أكثر بكثير من فرص العمل الضائعة المقدّر عددها بـ 6 ملايين. وتتوقّع منظّمة العمل الدولية في تقرير "التخّضير مع فرص العمل"، أن يستولد الاقتصاد الأخضر "24 مليون فرصة عمل في العام 2030، خصوصاً إذا ما وُضعت سياسات صائبة لتعزيز اقتصاد أكثر اخضراراً". وستتركّز هذه الوظائف في مروحة واسعة من الأنشطة والميادين. تبدأ بواضعي الخطط وصانعي السياسات والمستشارين وأفراد الجمعيات البيئية على مختلف تخصّصاتها. وتمرّ بمهندّسي الأنظمة البيئية والبيولوجية، ومهندّسي المباني والمشاريع الخضراء؛ سواء كانت عملاقة كمصانع السيارات الكهربائية وشفّاطات الكربون، أو بسيطة كتركيب ألواح الطاقة الشمسية على المستوى الفردي. لتصل أخيراً إلى العمّال الذي يركّبون هذه الأنظمة، ويعتنون بالأراضي، وينفّذون الجنائن العامّة والخاصّة، وموظفي المبيعات... وبعبارة أبسط، فإنّ كلّ من يسهم في تطوير الطّاقة المستقبلية النظيفة والمتجدّدة والمستدامة، يُعتبر من عمّال الياقات الخضر.
الاقتصاد الأخضر في لبنان "صغير"
على عكس الكثير من الدول الأجنبية والعربية التي خطت خطوات عملاقة في المشاريع الخضراء، فإنّ "الاقتصاد الأخضر" في لبنان ما زال صغيراً. وهو ظلّ حتّى الأمس القريب محصوراً بتركيب أنظمة سخّانات المياه وتوليد الكهرباء الفردية بالاعتماد على الشمس. وهذه الفورة الكبيرة في تركيب أنظمة الطاقة المتجدّدة في السنوات الأخيرة، والتي تمظهرت في "تفقيس" آلاف العمّال والمقاولين والمتاجرين، "بدأت تفخت مع نهاية العام 2022 "، بحسب رئيس المركز اللبناني لحفظ الطاقة بيار خوري. "مع وصول السوق الفردية إلى الإشباع. إذ جرى تركيب ما يقرب من 1000 ميغاواط من أنظمة إنتاج الكهرباء من الطاقة الشمسية بقيمة تتجاوز المليار دولار. وعاد كلّ من عمل في هذا القطاع بشكل غير محترف من "الكهربجي" و"الباطنجي" والحداد والسباك إلى مهنهم الأصلية البعيدة عن الاقتصاد الأخضر.
على عكس الكثير من الدول الأجنبية والعربية التي خطت خطوات عملاقة في المشاريع الخضراء، فإنّ "الاقتصاد الأخضر" في لبنان ما زال صغيراً.
السوق اللبنانية تصفّي نفسها وتخلق "النموذج" المستدام ولو على مصغّر
صحيح أنّ العمالة الخضراء في مجال تركيب أنظمة الطاقة الشمسية شهدت انخفاضاً كبيراً في العام 2024، إلّا أنّ السوق استعاضت عنها بوظائف متوسطة وطويلة الأمد في مجال إنتاج الطاقة في المشاريع للشركات. وهي المشاريع التي تقوم بها شركات مرخّصة تتبع الأنظمة والقوانين وتلتزم المعايير، وتشغّل عمالاً وموظّفين دائمين وليس بشكل مؤقّت. وقد وصل عدد الشركات المؤهّلة والمسجّلة في المراكز اللبنانية لحفظ الطاقة "إلى نحو 50، يعمل فيها بين 10 و15 موظفاً بشكل دائم"، بحسب خوري. و"هناك نحو 60 شركة صغيرة مؤهّلة مسجّلة في المركز أيضاً تشغّل أقلّ من 10 عمّال وموظفين. ويُضاف إليها عدد مواز من الشركات غير المسجّلة في "المركز"، كون التسجيل غير إلزامي. وعليه، فإنّ العدد الإجمالي للشركات المحترفة قد يتجاوز 200، يعمل لديها نحو 2000 موظّف وعامل بشكل دائم. كما يستفيد الاقتصاد الأخضر من الأعمال المتصلة غير المباشرة من النقل والاعتناء بالأراضي وتأهيلها، وغسل الألواح الشمسية وصيانتها وغيرها الكثير من الوظائف". أمّا بالنسبة إلى المشاريع الكبيرة على المستوى الوطني كمشروع "هوا عكار" المجمّد، ومشاريع إنتاج بين 11 و15 ميغاواطاً الملزّمة لـ 11 شركة، فإنّ تفعيلها والبدء بها يرفدان السوق بالمزيد من فرص العمل. قال خورى إنّ "اثنين من أصل 11 مشروعاً سيبصران النور قبل نهاية العام الجاري".
الاقتصاد البيئي الدائري
التحدّيات المناخية التي تواجهها كلّ الدول في أنحاء العالم تفترض العمل على "تطوير الاقتصاد البيئي الدائري"، بحسب رئيس حزب البيئة العالمي الدكتور ضومط كامل. وهذا يعني العمل وفقاً لنظام اقتصادي يهدف إلى القضاء على الإهدار والاستخدام المستمرّين للموارد. إذ تعمل الأنظمة الدائرية على إعادة الاستخدام والمشاركة والإصلاح والتجديد وإعادة التصنيع وإعادة التدوير. وهذه الطريقة لا تسهم، برأي كامل، في "خلق فرص عمل عديدة، إنّما تضمن استمرارية كوكب الأرض. خصوصاً إذا وصلنا إلى عدد سكّان مضاعف بعد عدة سنوات. إذ سيزيد الضغط على الموارد الطبيعية والبيئة بشكل كبير جداً، ويهدّد الوظائف الخضر وغير الخضر".
التطوّر العلمي والتعليمي
الفرص الواعدة للتوظيف في الاقتصاد الأخضر انطلقت، إذ راحت الجامعات والمعاهد المحلّية تضيف إليها اختصاصات جديدة ذات صلة بالمستويين المهني والأكاديمي. فطوّرت الجامعات، ومنها الجامعة اللبنانية، اختصاص إدارة الموارد الطبيعية الذي يتفرّع، مثلاً في قسم البيئة والموارد الطبيعية في كلية الزراعة، إلى عدة اختصاصات تتعلّق بالغابات والمراعي والزراعة الحرجية... كما أدخلت المعاهد المهنية بناء على القرار الرقم 162 تاريخ: 26/04/2022 منهاجاً للتدريب على مهنة "تشغيل نظام الطاقة الشمسية الكهروضوئية" في المديرية العامة للتعليم المهني والتقني، والذي يؤدّي إلى نيل إفادة نجاح، تُذكر عليها المهارة والكفاية اللتان اكتسبهما المتدرب.
المبادرات الفردية والعامّة، على أهميتها، ما زالت محدودة جداً في لبنان مقارنةً بدول أخرى، ولاسيما الخليجية منها. مع العلم أنّ لبنان قد يكون من أكثر البلدان تأهّلاً للعب دور محوري على صعيد الاقتصاد الأخضر، وبالتالي تطوير عشرات آلاف فرص العمل، ليس لأنّه أخضر، إنما لما يتضمّن من تلوّث وإهدار للموارد الطبيعية والبيئية. ولعلّ الإهدار الفاضح في المياه خير دليل على ذلك.