لم يتسلّم حزب الله، رسميّاً، الورقة الفرنسية المنقّحة. سُلّمت الورقة إلى الدوائر الرسمية من خلال رئيسي مجلس النواب نبيه بري وحكومة تصريف الأعمال نجيب ميقاتي، وبالتنسيق معهما يعمل حزب الله على درسها وإعداد الجواب اللازم بشأنها. لا يحتاج الموضوع إلى شرح مستفيض من قِبله، فالورقة وما تضمّنته من بنود تراعي مصالح إسرائيل أكثر ممّا تراعي مصالح لبنان.

هال الثنائي الشيعي ما ورد من بنود قيل أنّ فرنسا عملت على تلطيفها بعد صيغة أولى لم تفِ بالغرض، ليتبيّن لبيروت أنّ باريس ضمّنت المقترح بنوداً لا يمكن الموافقة عليها بدلاً من أن تُظهر مرونة لدى الصياغة. أوّل هذه البنود وأهمّها هو الفصل بين جبهتي غزّة والجنوب ووقف إطلاق النار على الجبهة الجنوبية، وتراجع عناصر قوات الرضوان إلى ما بعد الليطاني مقابل وقف إسرائيل طلعاتها الجوية.

واضحةٌ وجهة نظر حزب الله ومفادها إذا كان الهدف من الورقة وقف الحرب انطلاقاً من جبهة الجنوب قبل وقف إطلاق النار في غزّة، فهذه صيغة مرفوضة بالمطلق. يعتبر حزب الله أنّ كلّ نقاش حول ترتيبات لمرحلة ما بعد غزّة قبل وقف إطلاق النّار الفعلي ليس وارداً. تقول مصادر اطّلعت على مضمون الورقة إنّ فرنسا لم تدرج في سياقها موضوع الحرب في غزّة ولم تتطرّق إليه، بل تحدّثت عن سحب حزب الله قوّاته من الجنوب إلى ما بعد شمال الليطاني مقابل وقف إسرائيل طلعاتها الجوية، كما تنصّ على نشر الجيش اللبناني وقوات اليونفيل على طول الحدود الفاصلة. ما يستغربه حزب الله أنّ بنوداً قاسية كهذه ضمّنتها فرنسا في ورقة اقتراحها للحلّ قبل انتهاء الحرب وتبيان نتائجها، فماذا لو انتهت هذه الحرب إلى خسارة حزب الله؟ حينذاك كيف سيكون عليه الحال؟ وهل تعلن حرباً سياسية لتطويقه؟

برغم سلبية التعاطي الفرنسي، يرفض "الثنائي" التعاطي بالمثل أو رفض الورقة مباشرة بعد الاطلاع على مضمونها. أصرّ بري على درسها تمهيداً لإعداد الردّ المناسب، في حين تعاطى حزب الله معها كأنّها لم تكن، كي لا يختلف مع فرنسا وسفيرها الذي هو على تواصل مباشر معه، وقد زاره قبل وصول وزير الخارجية الفرنسية.

تلافت فرنسا عبر سفيرها تسليم نسخة من الورقة إلى حزب الله، واكتفت بتسليم نسختين عنها إلى الرئيسين بري وميقاتي، فاعتبر حزب الله نفسه غير معني بما ورد فيها، وإن هالَه التعاطي الفرنسي المفضوح لمصلحة اسرائيل. منذ وصلته دأب حزب الله على درس البنود لتسليم ملاحظاته بشأنها إلى برّي، وإن كان كلّ ما ورد فيها غير قابل للبحث.

يحاول الجانب الفرنسي لعب دور يظهره كمعني بملفّ لبنان ومقرّر فيه، لكن تقويم ما ورد في ورقته يضعه لبنانياً في خانة الساعي إلى ضمان أمن إسرائيل. لا ينسى حزب الله كيف وقفت فرنسا منذ عملية طوفان الاقصى إلى جانب الاحتلال ووضعت حركة حماس على لائحة الإرهاب وأعلن رئيسها ايمانويل ماكرون وقوفه الصريح إلى جانب إسرائيل يوم زارها في خضمّ الحرب على غزّة.

يحاول الجانب الفرنسي لعب دور يظهره كمعني بملفّ لبنان ومقرّر فيه، لكن تقويم ما ورد في ورقته يضعه لبنانياً في خانة الساعي إلى ضمان أمن إسرائيل.

وكيف لحزب الله أن يوافق على النسخة المنقّحة من ورقة اعتبر نسختها الأولى مستفزّة، فرفضها بالمطلق، ثم وجد التعديلات عليها أسوأ ممّا كان النصّ بصياغته الأولى. بعد مضي شهرين على الورقة الأولى عادت فرنسا باللغة، وليس بالمضمون، مشترطةً وقف حزب الله هجماته ضد إسرائيل، وتفكيك قواعده العسكرية وسحب قوّاته الموجودة في الجنوب، وهذا ليس وارداً وغير قابل للنقاش من قِبل الحزب ما لم تتوقّف الحرب على غزّة.

حصر حزب الله الجواب برئيسي المجلس والحكومة. وما دامت فرنسا لم ترسل إليه نسخة عن الورقة فهو يتجنّب مساجلتها.

في ما تضّمنته الورقة، فإنّ التقاطع النظري بينها وبين المقترحات الأميركية التي سبق أن قدّمها آموس هوكستين موجوداً حول تطبيق القرار 1701، ولكن ما ليس معروفاً بعد هو هل جاءت الورقة الفرنسية بالتنسيق مع واشنطن أم بمبادرة من باريس؟

لا تشير المعطيات إلى أنّ أميركا تسعى إلى أيّ خطوة حالياً ما دامت حرب غزّة لم تنته بعد، ولم يتمّ الإعلان عن وقف إطلاق النار. وقبيل مغادرته لبنان عقب زيارته الأخيرة، بدا هوكستين مقتنعاً أنّ أيّ مبادرة سيكون مصيرها الفشل قبل وقف إطلاق النار في غزّة. وهو أبلغ نائب رئيس مجلس النواب الياس بو صعب باستحالة بحث أيّ أمر يتعلّق بجبهة الجنوب قبل نهاية حرب غزّة. ومنذ ذلك الحين لم يقدم هوكستين على خطوة جديدة باتجاه لبنان، ولا يبدو أنّ عودته قريبة، اللهمّ إلّا إذا نجحت مفاوضات التهدئة، وهو ما لا يمكن التنبّؤ به استناداً إلى التجارب الماضية، إذ فشلت المفاوضات بينما كانت الهدنة على وشك الإعلان.

الكلمة لا تزال للميدان، وكلّ ملفات المنطقة معلّقة على نهاية حرب غزّة، وأحدها رئاسة الجمهورية اللبنانية. لاءات ثلاثة تتحكّم بالوضع حالياً، لا للورقة الفرنسية، لا زيارة لهوكستين، لا انتخابات رئاسية في لبنان.