قابلت السلطات اللبنانية كلّ مؤمن بالوطن، بالخيانة. فمن بقي يزرع أرضه ويرويها بعرق جبينه، عجز عن تصريف إنتاجه بعدما أُغرقت الأسواق بالمستوردات عاماً بعد آخر. ومن أحبّ الصناعة الوطنية لأنّه أحبّ لبنان، حُرم من أبسط المقوّمات البديهية وأقفلت في وجهه أبواب التصدير. ومن أفنى عمره في تعليم أجيال الغد، خرج بتعويض لا يعادل ثمن كسرة خبز. وتطول لائحة الذين عاشوا خيبات البقاء في الوطن، والنضال في سبيل التغيير. ولكن لعلّ الفئة التي شعرت بالخيانة بمقدار أولئك مجتمعين، هي فئة المودعين بالليرة، إذ صدّقت مقولة "الليرة بخير"، حتّى عشية الانهيار في تشرين الأول 2019.
قبل أشهر قليلة من انفجار الأزمة الاقتصادية، كانت المصارف تحوي ودائع بالليرة تفوق الـ 70 ألف مليار. وكانت قيمتها وقتذاك على سعر الصّرف "المعجزة" 1500 ليرة مقابل الدولار، تعادل 46 مليار دولار. هذه الودائع "تبخّرت" بالمعنى الحرفي للكلمة. إذ بعد نحو 5 سنوات على الانفجار لم يبق منها إلّا 47 ألف مليار ليرة، بيد أنّ قيمتها الفعلية أصبحت قرابة نصف مليار دولار بعد اعتماد سعر صرف السوق، 89500 ليرة مقابل الدولار. بعبارة أخرى، خسر المودعون نحو 45.5 مليار دولار من مدخراتهم في غضون 5 أعوام.
كيف ينقسم المودعون بالليرة؟
ينقسم المودعون بالليرة إلى ثلاث فئات رئيسية:
1. الفئة الأولى هي: صغار المودعين الذين صفّوا ودائعهم بقليل من الإنصاف في بداية الأزمة بحسب التعميم 148. إذ سمح مصرف لبنان في 3 نيسان 2020، لكلّ مودع لا تتخطّى قيمة وديعته الخمسة ملايين ليرة تحويلها إلى الدولار على سعر الصرف الرسمي، 1500 ليرة، ومن ثم تحويل المبلغ المطلوب سحبه إلى الليرة وفقاً لسعر السوق المعتمد على المنصّة الالكترونية لعمليات الصرافة، بتاريخ طلب السحب من قبل العميل، 3900 ليرة وقتذاك. وهذا يعني أنّ وديعة بقيمة 5 ملايين ليرة أرجعت بقيمة 13 مليون ليرة. وكان الغرض من التعميم التخلّص من صغار المودعين الذي يثيرون "وجع الرأس". وبالفعل صُفّيت مبالغ كبيرة من الودائع بالليرة بحسب هذا التعميم.
2. الفئة الثانية هي: المودعون الذي حوّلوا ودائعهم من الليرة إلى الدولار بعد 17 تشرين الأول 2019. إذ تشير البيانات المصرفية إلى ارتفاع نسبة دولرة الودائع من نحو 73.4 في المئة في تشرين الأول 2019 إلى 76.1 في المئة في كانون الأول 2022، ومن ثم إلى 96.6 في المئة مع نهاية أيلول 2023. وتعامل الودائع المحوّلة من الليرة إلى الدولار، حتّى لو كانت موضوعة أساساً بالدولار قبل تحويلها إلى الليرة للاستفادة من الفوائد، باعتبارها ودائع غير مؤهلة، وتخضع بالتالي لإمكان الاستفادة منها بواحد من هذه الاجراءات الثلاثة:
- السحب من الودائع بحسب سعر الصرف الرسمي: 15 ألف ليرة مقابل الدولار وضمن سقوف يحدّدها كلّ مصرف على حدة. خصوصاً من بعد انتهاء مفعول العمل بالتعميم 151 الذي كان يضع حداً أقصى للسحب هو 1600 دولار.
- السحب بحسب التعميم 166، غير المنفّذ بعد على نطاق واسع، والاستفادة شهرياً من 150 دولاراً نقداً.
- انتظار تنفيذ خطة توزيع الخسائر للحكومة، والتي شرّعت في آخر مسودّاتها إمكان سحب 36 ألف دولار من الوديعة، على مدى 15 عاماً، بمعدل 300 إلى 400 دولار شهرياً. وإرجاع المبالغ التي تفوق 100 ألف دولار بالليرة بسعر يشكّل بين 20 و30 في المئة من سعر السوق حدّاً أقصى، واحتساب كلّ 10 دولارات من الوديعة التي تفوق 500 ألف دولار، دولاراً واحداً في حالة إخضاع المبلغ لـ BAILIN.
3. الفئة الثالثة، المودعون الذين لا تزال ودائعهم بالليرة. هذه الفئة هي أكثر الفئات مظلومية.
هل هناك نية سيئة عند البعض لمجابهة تذويب الودائع وتعريض لبنان للإدراج على اللائحة السوداء لمجموعة العمل المالي؟
المصير المجهول
خلافاً للفئتين الأولى والثانية، فإنّ الفئة الثالثة ما زالت مجهولة المصير. فتسييل هذه الودائع قبل تعرّضها للمزيد من الانهيار إذا عاد سعر صرف الدولار إلى الارتفاع، يُواجه بـ "خشية مصرف لبنان من استعمال هذه الودائع للمضاربة، وليس تمويل فاتورة الاستهلاك"، بحسب خبير المخاطر المصرفية محمد فحيلي. ذلك مع العلم أنّه "يجب على مصرف لبنان السماح بسحب هذه الودائع بطريقة غير نقدية. أي عبر بطاقات الائتمان وفق التعميم 165. وتخصيصها للشراء من نقاط البيع المختلفة في الداخل". وتنقسم الحسابات بالليرة البنكية التي اصطلح على تسميتها بـ "بيرة" إلى مودعين أفراد، ومؤسسات، منها صناديق ادخّار للموظّفين والنقابات. و"الحل العادل يكون من ضمن خطّة لإنقاذ الاقتصاد وليس الودائع"، بحسب فحيلي.
النيّات السيئة تلعب لعبتها!
الحديث عن الخيبات، ومنها بشكل أساسي خيبة المودعين بالليرة، أمر ضروري، و"لكنّه ليس الممرّ الإلزامي لإنقاذ الاقتصاد اللبناني"، من وجهة نظر فحيلي. "إنّما الحلّ يكون في الانطلاق إلى الخطوات العملية والعلمية وتطبيقها على أرض الواقع". فالأخبار الأخيرة الصادرة عن قيادة مصرف لبنان، أعربت بوضوح عن التواصل مع وزير المال للعمل على تسديد الضرائب والرسوم عبر وسائل الدفع المتاحة في القطاع المصرفي، وعن أنّه تمّ الاتفاق مع "ماستر كارد" و"فيزا" من أجل تنشيط العمل بنقاط البيع، وعن ضرورة تفعيل التعميم 165 أيضاً. وعلى الرّغم من أنّ "هذه الخطوات لا تتطلّب تشريعات أو قوانين أو مراسيم، فإنّ البدء بالتطبيق، لم يُفعّل إلى اليوم. وهذا ما يطرح، بحسب فحيلي، مجموعة من علامات الاستفهام عن الغاية الكامنة وراء إهمال هذه الاجراءات، وعدم توحيد الدولار المصرفي بحسب سعر صرف السوق، لتمكين المودعين من استخدامه بسعره الحقيقي عبر وسائل الدفع الألكترونية، ومن ثم القضاء على "الهيركات". ويقودنا بالتالي إلى السؤال هل هناك نية سيئة عند البعض لمجابهة تذويب الودائع وتعريض لبنان للإدراج على اللائحة السوداء لمجموعة العمل المالي وليس الرمادية فقط.
تصديق خرافة "الليرة بخير" قاد المودعين بالليرة إلى "الاصطدام بـ الحيط" على حد قول المثل الشعبي. وبدلاً من مبادرة السلطتين السياسية والنقدية إلى الإنقاذ سريعاً، تركتا المودعين في مكان الحادث ينزفون في انتظار تصفية دمائهم.