يوم تعبٍ جديد في الأول من أيار أضيف إلى رزنامة شقاء العمّال في لبنان. المناسبة العالمية الاحتفالية بالإنجازات المحقّقة، تحوّلت إلى محطّة للمطالبة بالحقوق البديهية التي كفلتها الدساتير والشرائع الأممية. وبدلاً من تمتّع العمّال بإنجازاتهم وتنعّمهم بيوم راحة، تذوب نعالهم في التظاهرات التي تعمّ الشوارع، وتُبحّ أصواتهم أمام قصور الحكّام، وتُسيّل دموعهم قنابل غازية يطلقها من همّ أشدّ حرماناً منهم. ليعودوا مقهورين في الثاني من أيار إلى أعمالهم، أو بطالتهم السافرة والمقنّعة.
هذه التراجيديا العمّالية تحدّث في لبنان في القرن الحادي والعشرين، وليس في أواخر القرن التاسع عشر. صحيح أنّ عمال لبنان لم يتمتّعوا يوماً بكامل حقوقهم، إلّا أنّ الانهيار قضى على أبسط البديهيات. فنسبة العمالة غير المنظّمة، أي تلك التي لا تغطّيها بشكل كاف الترتيبات الرسمية ونظم الحماية، تمثّل بحسب منظّمة العمل الدولية "أكثر من 60 في المئة من مجموع العمالة في لبنان". أي من كلّ 100 عامل هناك 60 عاملاً غير نظامي، لا يتمتّعون بأبسط الحقوق بدءاً من عقد عمل رسمي، مروراً بالضمانات الاجتماعية من صحية وتعليمية، وصولاً إلى احترام عدد ساعات العمل ونيل الفرص الأسبوعية والسنوية.
الواقع المرير هذا يعود إلى أربعة أسباب جوهرية:
- الأول، الانكماش الاقتصادي الحاصل بعد الانهيار الذي بدأ في العام 2019، وتراجع حجم الاقتصاد من نحو 54 مليار دولار إلى أقلّ من 20 ملياراً. الأمر الذي أدّى إلى إقفال عدد كبير من المؤسسات؛ ولا سيما في قطاع الخدمات، وانعكس "ارتفاعاً في معدّلات البطالة من نحو 11.4 في المئة في العام 2019 إلى 29.6 في المئة في العام 2022"، بحسب آخر مسح لمنظمة العمل الدولية بالتعاون مع الإحصاء المركزي. "كما فقد 27.7 في المئة من الذين كانوا منخرطين في سوق العمل في العام 2019 وظائفهم". وارتفعت نسبة البطالة في أوساط الشباب إلى 40 في المئة.
- الثاني، انهيار القدرة الشرائية وفقدان المؤسسات الضامنة وفي مقدمتها الصندوق الوطني للضمان الاجتماعي القدرة على رفع التعريفات بشكل مواز لانهيار سعر الصرف. فتقهقرت التقديمات وهزُلت، ولم تعد تغطّي ولو جزءاً بسيطاً من التكاليف الحقيقية للتعليم والاستشفاء وأسعار الدواء.
- الثالث، عدم تحديث قانون العمل المقرّ في العام 1946. فهذا القانون بقي قاصراً عن حماية المصروفين تعسّفاً. إذ تنصّ المادة 50 منه على إعطاء العامل تعويضاً يراوح بين شهرين واثني عشر شهراً على أساس الحدّ الأدنى للأجور (18 مليون ليرة). كما أنّه يقصي من بنوده الحمائية فئات واسعة من العمال كالخدم في بيوت الأفراد، والمزارعين، والمستخدمين والعمال المؤقّتين في الإدارات الحكومية والبلديات. ولا يوفّر هامشاً واسعاً للتنظيمات النقابية.
- الرابع، ارتهان جزء كبير من النقابات واتحاداتها للسلطة وأرباب العمل. ولعل هذا أخطر ما يواجه العمال. إذ لا تنحصر نتيجة التواطؤ بعدم الضغط لحماية العمال وإنصافهم، إنّما بالاتفاق على إقرار ما هو ليس في مصلحتهم. ولعلّ هذا ما حدث في التعديل الأخير للحدّ الأدنى الأخير للأجور. إذ رضي ممثلو العمال بحدّ أدني "يميت" العمال ولا يعيّشهم. وقبلوا عدم التصريح عن المساعدات للضمان الاجتماعي، مما يحرمه القدرة على زيادة التقديمات. ولم يفرضوا وضع نسبة غلاء المعيشة. وذلك رغم إقرار جهاز الدولة الرسمي للإحصاء بأنّه يجب أن لا يتدنّى عن 36 مليون ليرة. فلحق بالعمال غبنٌ غير مسبوق إذ فرض عليهم دفع الضرائب والرسوم على سعر صرف 89500 ليرة، وتقاضي رواتبهم على أساس دولار 18 ألف ليرة.
انهيار مجالس العمل التحكيمية
على الرّغم من المعاناة وارتفاع معدّلات الصرف التعسّفي والظلم اللاحق بالعمّال، يُسَجّل تراجع هائل في الشكاوى المقدّمة إلى مجالس العمل التحكيمية. و"ذلك يعود إلى انعدام الثقة بالقضاء العمّالي"، بحسب المستشار النقابي والقانوني في المرصد اللبناني لحقوق العمّال والموظّفين عصام زيدان. "فهذا القضاء معطّل ومحروم من توفير أدنى متطلّبات العمل، بالإضافة إلى شلّه بالإضرابات المصاحبة، ولا سيما إضراب مفوّضي الحكومة المستمر منذ عدّة أشهر". وقد أدّى هذا الواقع، بحسب زيدان، إلى "تجميد كلّ القضايا المرفوعة سابقاً، وإحجام العمّال عن التقدم بشكاوى جديدة. فهناك غرف لم يتمّ تعيين هيئتها، وغرف منتهية ولايتها، وغرف معطّلة بغياب مفوّضي الحكومة".
النساء الأكثر تضرراً
هذا الواقع أرخى بثقله على كاهل العمّال عموماً، والنساء العاملات خصوصاً. إذ تراجعت حصّة النساء في سوق العمل من 34 في المئة قبل العام 2019 إلى 22 في المئة"، بحسب المرصد. وتعدّ النساء من أكثر الفئات العاملة المتضرّرة من الانهيار، خصوصاً أنّ خسارة 12 في المئة من اليد العاملة النسائية تعني فقدان النساء 90 ألف وظيفة من أصل 750 ألف عامل في لبنان. والمفارقة أنّ العاملات لا يطالبن بحقوقهن ولا يملكن اندفاع الرجال للدفاع عن فرص عملهن ولا يشتكين عند الصّرف لأسباب تتعلّق بالمحظورات الاجتماعية واعتبار دخل المرأة غير أساسي. فيصمتن عن الغبن اللاحق بهن.
السياسيون أرباب الأعمال
يساعد على تعميق الإجحاف اللاحق بالعمّال "هيمنة القوى السياسية، الشريكة مع أرباب العمل، على القرار النقابي"، بحسب زيدان، "نتيجة امتلاكها امتداداً شعبياً واسعاً يؤسّس لإنشاء أكثريات داخل نقابات هجينة وضعيفة، ليس فيها انتساب واسع. فتسيطر على النقابات وتضع على رأسها قيادات موالية، أو لا تعارضها في أسوأ الأحوال".
مبادرة تعديل قانون العمل اللبناني
في موازاة ذلك، أطلق اللقاء الوطني من أجل تعديل شامل لقانون العمل اللبناني، مبادرته نحو قانون اجتماعي وإنساني يواكب العصر والمتغيّرات في علاقات العمل. خصوصاً أنّ قانون العمل هو أهمّ عقد اجتماعي، ويجب أن يتمّ علناً ومع الحوار الاجتماعي الواسع. وستتضمّن المبادرة بشكل أساسي:
- فتح النقاش والحوار مع العمال والناشطين/ات من معظم القطاعات الانتاجية والتواصل مع الفئات المهمّشة بالتعاون والشراكة مع اتحادات ونقابات عمالية ومع الجمعيات المدنية المعنية.
- العمل على تعديل شامل للقانون وليس لأجزاء منه، إذ بادرت إليه، ولا تزال تبادر بعض الجمعيات الصديقة، على أمل التنسيق معها لتوحيد الجهود.
- تحديد إطار المبادرة بالشراكة بين المجتمع المدني والاتحادات النقابية والعمالية الفاعلة.
- التواصل والحوار مع أطراف الانتاج من أصحاب العمل في مختلف القطاعات، ومع القوى والتكتلات النيابية واللجان المختصة في المجلس النيابي وخصوصاً مع النواب التغييريين.
وليس سرّاً القول إنّ سوق العمل في لبنان عاجزة عن خلق فرص عمل. والقضاء المسؤول عن إنصاف العمّال معطّل. وفرص العمل المتوفرة حالياً، على قلّتها، رهن تحكّم أصحاب العمل وفرض شروطهم خلافاً لقانون العمل. والصرف التعسّفي ماضٍ على قدم وساق. والتقديمات الاجتماعية متهاوية. والاستثمارات المسؤولة عن خلق فرص عمل معدومة. والعمّال يذعنون للقوى الحزبية والسياسية، التي تتلاقى مصالحها في الكثير من الحالات مع مصالح أرباب العمل. وعليه، ليس في شرايين العمّال نبض للاحتفال بعيدهم هذا العام.