دخل موسم التبغ في الجنوب مرحلة الخطر بعد إقفال الجنوبيين ملف الزراعة نتيجة الوضع الأمني الخطير في القرى الحدودية، والذي أجبرهم على التخلّي عن أراضيهم، والنزوح إلى مناطق أخرى. وتعتبر زراعة التبغ في الجنوب من المداخيل الرئيسيّة لمعظم أهاليه، فهي في عداد أكثر الوظائف التي اشتهروا بها، مع قسم كبير من أهالي عكّار والبقاع.
16 ألف حيازة زراعية
قبل بدء الحرب، كان يعمل في زراعة التبغ أكثر من 16 ألف عائلة (16 ألف حيازة زراعية)، تتفاوت أحجام الأراضي التي يزرعونها بين دونمين و 10 دونمات (الدونم يعادل ألف متر مربع)، وكان ينتج من هذه الأراضي محاصيل تراوح بين الـ 200 كلغ والألف كلغ، أي بمعدّل 100 كلغ لكلّ دونم. وهو ما أكّده لـ"الصفا نيوز" نائب رئيس الاتحاد العمالي العام ورئيس اتحاد نقابات التبغ في لبنان حسن فقيه: "2019 و2020، كانتا سنتين كبيستين ضُرب فيهما سعر المحصول، الذي كان يباع بالليرة اللبنانية، نتيجة انهيار العملة الوطنية، فتراجعت الأرباح الموسمية، وبِيع المحصول بسعر زهيد، وتراجع ثلث الزراعة تقريباً. أمّا في الأعوام 2021 و2022 و2023 فتمّ شراء المواسم بالدولار لتعود الحركة إلى قطاع زراعة التبغ في الجنوب."
وأضاف فقيه "أمّا هذا العام فقد سبقت الحرب في الجنوب شهر زراعة الشتول، وهو يبدأ من شباط إلى نيسان… كان من المفترض أن يزرع الجنوبيون الأراضي، ويغطوا الشتول بالنيلون، وهو ما لم يحصل نتيجة القصف. أمّا في الشهر الخامس فتبدأ نبتة الدخان بالنمو، وهي تعتبر من النباتات الباذنجانية، وتحتاج إلى 90 يوماً ليكتمل نموها. أمّا زراعة الدخان (وهي زراعة موروثة) فتمرّ بمراحل معقّدة لأنّ تقنياتها بدائية (يقطفونها بالورقة ويزرعونها بالشتلة)".
أكثر المناطق تضرراً
وعن أكثر المناطق تضرراً أشار فقيه إلى "تعرّض مناطق جنوب نهر الليطاني للقصف بشكل مستمر، ومعظم المزارعين لم يتمكّنوا من زراعة أراضيهم. وكنّا نعوّل على هدنة وقف إطلاق النار، قبل شهر رمضان المبارك، إلاّ أنّ الهدنة لم تسلك طريقها إلى النجاح. علماً أنّ إدارة الريجي كانت قد هيّأت مشاتل في منطقة السعيدات لتأمين الشتول للمزارعين الذين لم يتمكنوا من زراعة أرضهم".
وهنا تجدر الإشارة إلى أنّ إدارة حصر التبغ والتنباك اللبنانية "الريجي" كانت قد أعلنت أنها "من منطلق حرصها على الوقوف إلى جانب أهلها في الجنوب تعلن عن "مبادرة إنقاذية" لزرع بذور تبغ في أراض تابعة لها، تعتزم توزيعها عندما تصبح شتولاً على مزارعي التبغ من أبناء المناطق الحدودية، في ظلّ عدم تمكّنهم بسبب الأوضاع الأمنية الراهنة من التشتيل في الوقت المناسب الذي يمتدّ من كانون الأول إلى شباط، مشدّدة على أنّ هذه المبادرة "تعكس تمسّكها بشتلة الصمود وبتوفير مستلزمات بقاء الجنوبيين في أرضهم".
"وبسبب استمرار القصف لم نتمكن من تزويد المزارعين الشتول"، تابع فقيه، لأنّهم غادروا مناطقهم إلى العاصمة، وبالتالي لم يفلحوا أراضيهم، وطار الموسم. وتأثّرت زراعة التبغ في المناطق الممتدة من سهل الخيام شرقاً إلى عين عرب نزولاً إلى حولا فكفركرلا وبليدا وصولاً إلى قرى الشطّ مروراً بالقرى الثلاث الرئيسية لزراعة الدخان وهي عيترون، ورميش، وعيتا. وهذه القرى تشكّل نحو 60 في المئة من مجمل الزراعة الجنوبية تقريباً".
القطاع منكوب
ورأى فقيه أنّ "القطاع الزراعي في الجنوب هذا العام منكوب، وهو ما أكّده رئيس حكومة تصريف الأعمال نجيب ميقاتي، ووزير الزراعة في حكومة تصريف الأعمال الدكتور عباس الحاج حسن. فإذا تمكّنّا من الوصول إلى نسبة 50 في المئة من نسبة محاصيل زراعة التبغ التي كانت متوفّرة قبل الحرب، أي مليون ونصف مليون كيلوغرام من أصل 5 ملايين، نكون قد حققنا إنجازاً".
وعن الحلول لفت إلى "أننا قد بدأنا تحركاتنا في هذا الملف، وعقدنا سلسلة اجتماعات مع إدارة حصر التبغ والتنباك المطّلعة على ما يحصل في الجنوب، والمهيئة للأمر، ونحن لا نعتبر أنّ ما يحصل في الجنوب محصور بمزارعي التبغ بل يشمل أيضاً مزارعي الحمضيات والزيتون. ففي منطقة الوزانة مثلاً تضرّرت زراعة المشمش والدراق والعنب، وهذه زراعة حديثة ومتقدمة، أمّا سهل الخيام فتأثرت زراعاته الموسمية على نحو كبير".
أضرار طويلة الأمد
كما شرح فقيه أنّ "هناك أضراراً طويلة الأمد شملت الأراضي الزراعية في الجنوب، وضربت الثروة الحرجية والمياه الجوفية، وخصوصاً تلك الناتجة من القنابل الفوسفورية والعنقودية، والمتعذر علاجها. فبعد انقضاء 18 عاماً على حرب تمّوز لا تزال هناك 450 حالة إصابة زراعية بين جزئية وكاملة من جراء القنابل العنقودية. أمّا الخسائر، اليوم، فكبيرة جداً، ذلك أن الدورة الاقتصادية في الجنوب ضربت بقوة، ونحن نطالب الدولة بمعالجة الوضع والتعويض عن الناس بإعطائهم المبلغ نفسه الذي قبضوه في العام الماضي، وإلّا نكن أمام نكبة كبيرة بالإضافة إلى أزمة التهجير".
وهل يسد محصول المناطق الأخرى، كعكار والبقاع، الفجوة في محاصيل التبغ؟ أجاب "تعتبر الزراعة في الجنوب الشريان الحيوي وشريان سوق التبغ المحلّي، فهي تضمّ الصنف المميز والأوّل في لبنان، مع احترامنا لزملائنا في البقاع والشمال، وبالتالي لا شكّ في أنّ محصول سوق التبغ في لبنان سيتضرر بشكل رئيسي إثر تضرر محصول الجنوب، الذي كان ينتج بمفرده 6 ملايين كيلوغرام سنوياً".
مشكلات المزارعين
على مقلب آخر، تواصل "الصفا نيوز" مع عدد من مزارعي التبغ في الجنوب للوقوف عند مشكلاتهم والتحديات التي يواجهونها. قال إبراهيم الأسمر إنّ "أبرز المشكلات التي تواجهنا هي الوضع الأمني، الذي حرم الكثير من المزارعين الحاملين للرخص من زراعة أرضهم في الوقت المناسب، في حين أن الأرض لم تحرث كما يجب (أي لم تُفلح)، وهو ما سيؤثّر سلباً في كمية الإنتاج. فشتلة التبغ تحتاج إلى أرض ناعمة وطريّة لتنبت وتعيش، وهو ما تؤمّنه الفلاحة".
من جهّة ثانية، تابع الأسمر، "سعر المواد الكيمائية مرتفع جداً، وشتلة التبغ تحتاج إلى مواد رشّ لتعطي انتاجاً. أمّا القصف الفوسفوري فأثّر بشكل كبير على التربة، مانعاً الشتول من النمو على النحو المطلوب".
وأضاف"من 170 رخصة دخّان أعطيت لعائلات في قرية دبل، تمّ العمل بـ 60 رخصة فقط، لأنّ القسم الباقي من أصحاب الرخص نزحوا إلى مناطق آمنة، وتركوا أراضيهم. وبالتالي انخفض المحصول إلى الثلث في دبل. ومعروف أنّ الرخصة هي 4 دونمات".
وشرح أنّ الزرع يبدأ في دبل بـ "15 آذار ويمتدّ إلى 20 نيسان، أمّا القطف فيبدأ في حزيران بعد 60 يوماً تحتاج الشتلة إليها كي تنمو وتصبح صالحة للقطف الذي يمتدّ 3 أشهر. من بعدها نجمع محاصيل الموسم ونعبئها ونجهزها. أمّا سعر الكيلوغرام فتحدّده الريجي، وكان العام الماضي 6 دولارات و5 سنتات للكيلوغرام الواحد".
وعن المساعدات التي قدّمها المعنيّون في هذا الإطار، أجاب الأسمر " لم يساعدنا أحد، وأنا أعمل في هذه المصلحة منذ أكثر من 30 عاماً، والآن لم يعد يكفيني مردودها، لذلك نطالب المعنيين برفع سعر مبيع الانتاج، إذ كان المحصول يباع قبل الأزمة على سعر صرف 1500 ليرة بين الـ 8 والـ10 دولارات، وكان هذا يكفينا آنذاك لتسديد التكاليف. كما نطالب بتأمين موادّ كيمائية مجانية للمزارعين عبر التعاونيات".
وعن مشروع إدارة حصر التبغ والتنباك اللبنانية، قال "لم نتمكّن من الاستفادة من مشروع الشتول، لكون المنطقة بعيدة جداً عن دبل، ونحن لا نستطيع النزول إلى الجية في ظلّ الأوضاع الأمنية القائمة".
وقال أحد مزارعي بلدة رميش الجنوبية، فضّل عدم الكشف عن هويته "نخشى قطف المحصول بسبب القصف الإسرائيلي. فالقطف يتمّ في ساعات الفجر الباكر، ولا أحد يجرؤ على الخروج في هذا الوقت من منزله. كما نشكو غلاء أدوية التبغ، في حين أنّ الريجي ساعدت ببعض الأدوية، إلاّ أنّ الكميّة لم تكن كافية". وطالب المعنيين التعويض على جميع المزارعين، من تبغ وزيتون وحمضيات.