تعاني منطقة عكار منذ سنتين من قطع جائر مستمرّ للأشجار الحرجية المعمّرة يرقى إلى مستوى جريمة بيئية، بعدما تبلّغت الحركة البيئية اللبنانية عن وقوع مجزرة بحق أشجار الشوح واللزاب على طول الطريق الرئيسي الذي يربط كرم شباط بسهول القموعة، وصولاً إلى وادي الأسود، حيث تقدّر المساحة المتأثرة بنحو 3000 متر. وتنضم إلى هذه المناطق أعمال القطع الجائر للأشجار الحرجية المعمّرة في منطقة إقليم الخروب، وآخرها ما حصل في منطقة عين خميس والمعنية.
عريضة بحق تجار الخشب
وعليه، تابعت الحركة البيئية اللبنانية عبر المرصد البيئي الملف القضائي المتعلّق بهذه الانتهاكات البيئية والمتمثلة بشقّ طريق وقطع أشجار وتجاوز لحدود الرخصة المعطاة من وزارة الزراعة. وبعد تقديمها للأمر بوكالة المحامي زياد خالد أمام قاضية الأمور المستعجلة في حلبا، جوليانا عبدالله في 4 كانون الاول 2023، اتُّخذ قرار بوقف الأعمال فوراً تحت طائلة دفع غرامة إكراهية وتعيين خبير للكشف على المنطقة المحددة. وبعد الكشف الميداني في 14 كانون الاول 2023 وورود تقرير الخبير والتعليق عليه اتخذ القضاء في 8 كانون الثاني 2024 قراراً معجل التنفيذ بهذا الشأن وإبلاغ المدعى العام البيئي في الشمال للتحقيق بالجرائم البيئية المرتكبة ووزارة البيئة لبيان درس الأثر البيئي وتحديد الأضرار البيئية الناجمة عن الحفر والقطع والتشحيل، بالإضافة إلى إبلاغ وزارة الداخلية بسبب عدم مراعاة البلدية للقوانين البيئية المتعلقة بدرس الأثر البيئي.
التجار لا يكترثون للقرارات القضائية
وعلى الرغم من صدور قرار قضائي بهذا الخصوص، لم تتوقّف أعمال القطع الجائر للأشجار المعمرة، بل ارتفعت وتيرتها، لتشمل ألف شجرة جديدة في منطقتي تاشع وبزبينا في قضاء عكار. وعليه، تقدمت مجدّداً الحركة البيئية اللبنانية بطلب أمر على عريضة لدى قاضي الأمور المستعجلة في حلبا لوقف الترخيص بالتشحيل والتفحيم في أحراج البلدتين، كما توجهت بكتاب إلى وزير الزراعة في حكومة تصريف الاعمال الدكتور عباس الحاج حسن مرفقاً بنسخة عن الدعوة. وعلى الأثر حررت وزارة الزراعة ضبطاً وأوقفت مفعول الرخصة المعطاة، وأُحيل محضر الضبط إلى مقام المُدعي العامّ البيئي في منطقة الشمال لأخذ المقتضى القانوني بحق الأشخاص المسؤولين والمرتكبين. كما أصدرت قاضية الأمور المستعجلة في حلبا جوليانا عبدالله قراراً قضى بوقف الأعمال وتعيين خبير للكشف وإعداد تقرير حول الواقع البيئي ليُبنى على الشيء مقتضاه.
ومرّة جديدة، عادت جرائم القطع من بابها العريض. وفي هذا الإطار، قالت مصادر مطلعة على القضية لـ"الصفا نيوز" إنّ "ما يحصل في عكار خطير جداً، وهو على صلة بعصابة تتاجر بهذه الأشجار بعد تحويلها إلى فحم أو إلى استخدامات أخرى. وتتألف هذه العصابة من 5 أفراد عُمّمت أسماؤهم، إلاّ أنّه سرعان ما "لُغِّمت" اللائحة بأسماء وهمية ليصل عدد المطلوبين إلى 50 في محاولة لتضييع مسار القضية وهوية الفاعلين".
تجارة مربحة
وللغوص في تفاصيل هذا الملف، تواصل "الصفا نيوز" مع مختار عندقت - عكار، جوزيف عماد، الذي أوضح أنّ "المنطقة سياحية بامتياز، وهي ملأى بأشجار الصنوبر، والسنديان، والأحراش. وبعد أن احترق نصف الحرش قبل 3 سنوات، أعطت البلدية رخصاً لتحطيب الأشجار اليابسة، إلّا أنّها لم تضع خطّة تضمن أن يكفي هذا الحطب أهالي المنطقة والجوار لمدّة ثلاث سنوات، فاستفاد تجار الحطب من هذه الرخص على حساب الأهالي، فتاجروا بالحطب مع قبرص، وفي الداخل اللبناني مع منطقة كسروان وغيرها من المناطق. وبعد مضي 3 سنوات انتهت كميات الحطب اليابسة. ولضمان استمرار تجارتهم، قطعوا الأشجار الخضراء في غياب تام لدور البلدية والأجهزة الأمنية، وهذا ما سمح لهم بالتمادي وقطع حوالى مئة شجرة خضراء ومعمّرة بقصد التجارة، وليس لتأمين التدفئة في فصل الشتاء لأهالي عكار".
ونتيجة هذا الواقع، يتابع عماد، "تواصلت مع الأجهزة الأمنية، ومع كلّ من وزارتي البيئة والزراعة، ومع عدد من الجمعيات البيئية، ووسائل الاعلام، ونتيجة هذه التحركات، أصدرت البلدية قراراً قضى بمنع تحطيب الأشجار الخضراء في الأحراج، كما حذّرت من الحرائق المتعمّدة في فصل الصيف لأغراض التجارة. وفي هذه الأثناء ألقت مفرزة الدرك في القبيات القبض على أحد تجّار الخشب الأخضر بالجرم المشهود، وعلى معاونيه من عمّال من الجنسيّة السورية. إلاّ أنّه لم يتصل بي أحد للقدوم إلى المخفر وتوقيع المحضر. وبعد تدخلات سياسية ودفع رشىً تمّ الافراج عن هؤلاء، بعدما حمّلوا أكثر من نقلة خشب على عينك يا تاجر إلى خارج القرية، لينضمّ بعدها إليهم تجار آخرون".
حراسة الأحراج
وأضاف عماد "أرسلت تقرير الأحراج الذي يحمل توقيعَيْ رئيس المركز ونائب رئيس البلدية وتوقيعي، مع صور ملوّنة، إلى مرفأ القبيات، وتقدمت بشكوى. فتواصل المخفر مع المدعي العام البيئي في الشمال غسان باسيل، الذي طلب مني زيارته، ولبّيت الطلب، وشرحت له مدى خطورة الوضع، خصوصاً أنّ محاضر الضبط المحرّرة من قبل مديرية الأحراج، لا تتخطى الـ20 مليون ليرة، في الوقت الذي تبدأ فيه تسعيرة أصغر نقلة حطب من 500$ والحطب اليابس 400$، وبالتالي إذا لم يتمّ توقيف أحد هؤلاء التجار، ليكون عبرة لغيره، فسنتجه إلى حرائق في الأحراج في موسم الصيف. وبعد شهرين من هذه الزيارة، لم يتحرّك المدعي العام في هذه القضية حتى الآن".
ومن جهّة أخرى، تقدّم أحد رجال الأعمال في عكّار بالمساعدة، بحسب عماد، وأمّن عدداً من الشباب لحراسة الأحراج في عكار في فصل الصيف، مقابل رواتب شهرية. واليوم، فإنّ الأعمال قلّت كثيراً بعد تدخل مخابرات الجيش في الملف، إلاّ أنّ تقصير المعنيين بهذا الملف واضح جدّاً".
حرائق مفتعلة
في سياق متصل، شرح د. أنطوان ضاهر، رئيس مجلس البيئة في القبيات، لـ"الصفا نيوز" أنّ "عدد الأشجار يتخطّى الـ 1000، ولا شكّ في أنّ العدد مضاعف. والذين قاموا بهذه الجرائم البيئية هم تجار الحطب بعدما وجدوا في تجارة الحطب تجارة مربحة، لأنّها لا تحتاج إلى دفع بدل مواد أوّلية. فالحطب جاهز ويقوم التجار بقطعه وبيعه بأسعار مرتفعة جداً، خصوصاً أنّ أزمة المحروقات رفعت الطلب على الحطب في كلّ لبنان".
ولفت إلى أنّ "الغابة منذ الأزل كانت مصدر الطاقة الوحيد للبشرية، وكان المواطنون يلجأون إلى التشحيل بدل التقطيع، وإلى الاستفادة من الأشجار اليابسة والأغصان الصغيرة، ونحن لسنا ضدّ هذه الطريقة في الاستفادة من الغابات، إلّا أنّ ما نعارضه هو الاستغلال الإجرامي لغابات عكار في سبيل الربح السريع. وقد شهدنا في معظم مناطق عكّار، وخصوصاً في غابات عكّار العتيقة، حرائق مفتعلة بهدف التحطيب، إذ كان يضرم تجار الحطب النار في الغابة ويمنعون الناس من إطفائها، ثم يقطعون الأشجار ويبيعونها".
الأجهزة الأمنية متواطئة
"أمّا الأجهزة الأمنية"، بحسب ضاهر، "ويا للأسف في خبر كان، ولا تولي هذا الملف أيّ أهمية، كما هناك نوع من "قبّة باط" من الجهات الرسمية، إذ ثبت تورّط أشخاص من السلك الأمني في هذه الأعمال، ورفعنا أسماءهم إلى المعنيين، ولم يتمّ توقيفهم. ثمّة نوع من التواطؤ بين المسؤولين الأمنيين وتجار الحطب والمسؤولين السياسيين، الذين يتدخلون لإخراج أشخاص أوقفوا بالجرم المشهود، وهذه الحوادث تكررت أكثر من مرّة".
أكثر المناطق تضرراً
أكثر المناطق تضرراً، يقول ضاهر "هي جميع غابات عكّار، وعلى رأسها غابات عكار العتيقة والقموعة وفنيدق، ووادي عودين الذي تعرّض إلى حريق كبير وتمّ تقطيع جميع الأشجار التي حرقت فيه، وكذلك منطقة القبيات. هذه الأشجار يجب أن لا تقطع من جذورها، بل يجب أن تبقى في الأرض حتى تتحلل وتغذي الأرض. وما حصل في أحراش القبيات وعودين هو أنّ الأشجار اقتُلعت. فعلى الرغم من تمكننا من حماية أحراش القبيات مدة سنة فقد تمّت عملية الإبادة للأشجار". وعن المخاطر البيئية لفت إلى أنّها كبيرة جداً. "وإذا استمرّرنا على هذا الوضع فسيكون التصحر بانتظارنا، فضلاً عن كميات التلوّث المرتفعة، لأنّ الأشجار تسهم في تنقية الهواء وتلطيف المناخ. فالمناطق التي تتضمن غابات تتميز بالطقس المعتدل. كما أنّ الجرائم البيئية بحق الغابات تتسبب بخسارة سياحية بيئية كبيرة، وبالتالي خسارة اقتصادية. ومن نتائج تراجع الغطاء الحرجي، هو تراجع الثروة الحيوانية الحرجية، في حين أن الأخيرة مهددة بالانقراض في لبنان. ولا شكّ في أنّ خلل التوازن الطبيعي مرتبط مباشرة بتوازن صحة الانسان، وبالتالي نحن نخلّ من خلال هذه الممارسات بطبيعتنا وصحتنا".
في المحصّلة، تبقى أعمال تقطيع الحطب الأخضر واليابس من جذوره، جريمة بحق البيئة والطبيعة تستوجب تحرّك السلطات المحلية والأجهزة الأمنية والإدارية والقضائية المختصة لإجراء تحقيق وتوقيف الفاعلين وعدم التساهل معهم، واتخاذ إجراءات صارمة لإنقاذ ما تبقى من الثروة الحرجية لما لهذه الثروة من دور أساسي في الحفاظ على التوازن البيئي والتنوع البيولوجي ومنع تدهور الأراضي وتغير المناخ. وعليه، يجب تنفيذ إستراتيجيات مدروسة للحفاظ على الغابات وضمان استدامتها للأجيال المقبلة.