ينهمك اللبنانيون على المستويين الرسمي والشعبي بنتيجة تقرير "مجموعة العمل المالي – FATF" المنتظر صدوره في أواخر الشهر المقبل. ويترافق الإعلان عن قرب صدور التقرير، كما كلّ عام من بعد الانهيار، مع التوقّع بإدراج لبنان على اللائحة الرمادية للمجموعة. يساعد على إذكاء نار التوقّعات السلبية، انتشارُ الاقتصاد النقدي، وارتفاع معدّلات التهريب الجمركي والتهرّب الضريبي، وضعف النظام المصرفي، والإمعان في إضعاف دور الهيئات الرقابية، وفي مقدّمها هيئة الأسواق المالية، واتساع تجارة المعادن النفيسة. إنّما هل يكفي عدم التزام لبنان النسبي ضبط هذه العوامل لوضعه تحت "المراقبة المتزايدة"، على غرار 21 دولة؟ وما هي التداعيات الاقتصادية لوضع لبنان على اللائحة الرمادية؟
أصدرت مجموعة العمل المالي لمنطقة الشرق الاوسط وشمال افريقيا – MENA FATF، في كانون الأول 2023، تقرير التقويم المتبادل للجمهورية اللبنانية. يلخّص التقرير المؤلّف من 231 صفحة التدابير المعمول بها لمكافحة غسل الأموال وتمويل الإرهاب، والتي ارتكزت على الزيارة الميدانية من 18 تموز إلى 3 آب 2022. ويحلّل التقرير مدى الالتزام بتوصيات مجموعة العمل المالي الأربعين ومدى فعالية نظام مكافحة غسل الاموال وتمويل الإرهاب، ويوفّر توصيات بشأن كيفية تعزيز النظام.
مدى التزام لبنان توصيات مجموعة العمل المالي
النظرة الأولية على جدول "ملخص الالتزام الفني – أوجه القصور الأساسية"، تظهر أنّ لبنان "ملتزم إلى حد كبير" 25 توصية من أصل 40. و"ملتزم جزئياً" 6 توصيات من أصل 40. و"ملتزم" 9 توصيات من أصل 40. مع الإشارة إلى أنّ درجة ملتزم هي الأعلى، وتعني استيفاء لبنان متطلّبات هذه التوصية. وعليه، كانت النتيجة العامّة للتقرير "أنّ درجة التزام الجمهورية اللبنانية التوصيات الأربعين هي: "ملتزم إلى حد كبير".
تتمركز أوجه القصور بشكل أساسي حول مجموعة من العناصر، أبرزها:
- القصور في القانون الرقم 44 للعام 2015. فالإطار القانوني لنظام مكافحة غسل الأموال وتمويل الإرهاب يرتكز على هذا القانون. وتتضمّن قائمة الجرائم الأصلية لجريمة تبييض الأموال إحدى وعشرين جريمة (مثل ابتزاز الأموال، الاتجار بالبشر وتهريب المهاجرين، الاستغلال الجنسي، الفساد والرشوة، التهريب والقرصنة، والمتاجرة الداخلية، والتلاعب في الأسوق). وقد نصّت المادة السادسة من القانون 44 على إنشاء هيئة مستقلّة ذات طابع قضائي لدى مصرف لبنان تتمتّع بالشخصية المعنوية، غير خاضعة في ممارسة أعمالها لسلطة المصرف. وتتولى الاختصاصات المنصوص عليها في هذا القانون. وبحسب تقرير مجموعة العمل المالي، فإنّ القانون الرقم 44 لم يستوف جميع متطلّبات تجريم تبييض الأموال على أساس اتفاقيتي فيينا وباليرمو. كما لم تغطِّ المادة 2 منه بعض الفئات المحدّدة للجرائم الأصلية كالاتجار غير المشروع في السلع المسروقة. ولم يتم على مستوى التجريم اشتراط ما إذا كانت الأموال تمثل بصورة مباشرة أو غير مباشرة متحصلات ناتجة من جريمة ما. أمّا بخصوص العقوبات المنصوص عليها لجرم تبييض الأموال فهي لا ترقى، وفقاً لأحكام المادة (3) من القانون، لأن تكون عقوبة جنائية وإنّما عقوبة جنحوية. وهذا ما يجعلها غير متناسبة ورادعة للأشخاص الطبيعيين في حال الإدانة بجريمة غسل الأموال. كما أنّ تحديد الجرائم المناسبة لجريمة غسل الأموال لم تشمل الارتباط والتآمر.
- انخفاض قيمة الغرامات المفروضة على من يمارسون نشاط تحويل الأموال من دون ترخيص. وهي غير متناسبة مع أهمية تلك المخالفات غير الرادعة.
- عدم احتواء الاجراءات الداخلية لهيئة الأسواق المالية ولجنة مراقبة هيئات الضمان، على متطلبات تبادل أنواع المعلومات التنظيمية والاحترازية. وتلك المتعلّقة بمكافحة غسل الأموال وتمويل الإرهاب.
- يكرّس نظام العدالة الجنائية في لبنان إلى حد كبير محاكمة الجرائم الأصلية، بدلاً من غسل الأموال. ولا يبدو من الواضح أنّ السلطات تسعى إلى مصادرة عائدات جريمة غسل الأموال كهدف من الأهداف السياسية. وذلك على الرّغم من وجود إطار قانوني جيد يتمثّل بالصندوق الوطني لإدارة واستثمار الأموال قيد الاستعادة أو المستعادة المتعلّقة بالجرائم والمتحصلات لمرحلة التجميد أو الحجز.
مخاطر الاقتصاد النقدي أكبر
التزام لبنان إلى حد كبير التوصيات قد لا يجنّب لبنان الإدراج هذا العام على اللائحة الرماية لمجموعة العمل المالي. "إذ يكفي أن تكون توصية واحدة سلبية، كتوسع الاقتصاد النقدي أو ضعف الرقابة على مكاتب المحاماة وبقية الأطراف من تجار العقارات والمجوهرات والكتّاب العدل، لتُبقي لبنان في دائرة الخطر"، يقول الأستاذ المحاضر في قوانين الضرائب المحامي كريم ضاهر. إذ إن خرق هذه التوصيات يعادل أهمية التوصيات الأخرى مجتمعة. ومن نقاط الضعف التي يسجلها لبنان ضعف الرقابة على بقية القطاعات من خارج القطاع المالي، مثل الوسطاء العقاريين وتجار المجوهرات ومكاتب محاماة الشركات في الداخل والخارج والإفصاح عن صاحب الحق الاقتصادي في المعاملات. ولا تقتصر الرقابة المتبعة على هيئة التحقيق الخاصة ومصرف لبنان والمؤسسات المالية، إنّما تشمل أيضاً قطاعات أخرى، أهمها تلك التي تستطيع ان تسهل عمليات تبييض الأموال، وأجهزة المخابرات، والقوى الأمنية.
تضع مجموعة العمل المالي تقويماً لكل جهاز وقطاع من الأجهزة والقطاعات المذكورة أعلاه. وإذا كانت المصارف تلتزم المعايير بشكل كبير، وتحديداً موضوع إعرف عميلك واتخاذ إجراءات مكافحة غسل الأموال٬ Know Your Customer (KYC) and Anti-Money Laundering (AML) ، فإنّ نمو الاقتصاد النقدي (يشكّل 46 في المئة من حجم الاقتصاد بحسب تقرير للبنك الدولي) يمكن أن يلغي كلّ النتائج الإيجابية المحققة من الكثير من التوصيات"، برأي ضاهر. "كما أنّ معرفة عدم وجود أي رقابة من نقابة المحامين على عمل المحامين، يؤثّر سلباً في المعايير والتوصيات التي تفرضها مجموعة العمل المالي. لأنّ المجموعة تشكّ في التزام كلّ محامٍ من تلقاء نفسه جميع هذه الموجبات، الأمر نفسه ينسحب على كل القطاعات الأخرى".
النفاد من "قطوع" الإدراج على اللوائح الرمادية في العام 2023
ما جنّب لبنان إدراجه على اللائحة الرمادية في العام الماضي، كان إصدار التعميم 165 الذي يتيح استعمال الأموال النقدية في المصارف بوسائل الدفع غير النقدية أو الألكترونية. "وعلى الرّغم من المخاوف التي أثارها هذا التعميم على الفصل نهائياً بين الأموال الجديدة والأموال القديمة، فإنّه كان مطلوباً من مجموعة العمل المالي والجهات الرقابية الخارجية"، بحسب ضاهر. "ولم نطعن بهذا التعميم كما كنّا نعتزم، بعدما حصلنا على تعهد من مصرف لبنان بعدم استعمال هذا التعميم للتمييز بين الودائع".
وضع لبنان على اللائحة الرمادية لا يعني خروج لبنان من النظام المالي العالمي، إنّما تعقيد الإجراءات، ولا سيما المتعلقة بتحويل الأموال وفتح الاعتمادات المستندية مع الخارج، وتطلّبها المزيد من الوقت نتيجة التدقيق، وهذا سيرفع كلفتها. وكلّ ما يحكى عن خروج لبنان من النظام المالي العالمي هو محض تهويل. فمجموعة العمل المالي تعطي لبنان مهلة زمنية لتطبيق الإصلاحات الضرورية، وفي حال نجاحه ترفعه عن اللائحة الرمادية.
ما الفرق بين اللائحة الرمادية والسوداء؟
توضع على اللائحة الرمادية الدول التي تعمل بنشاط مع مجموعة العمل المالي لمعالجة أوجه القصور الإستراتيجية في أنظمتها لمكافحة غسل الأموال وتمويل الإرهاب وانتشار التسلح. عندما تضع مجموعة العمل المالي "ولاية قضائية" أو دولة ما، تحت مراقبة متزايدة، فهذا يعني أنّ الدولة قد التزمت حلّ أوجه القصور الإستراتيجية المحدّدة بسرعة، ضمن الأطر الزمنية المتفق عليها.
أمّا اللائحة السوداء فتوضع عليها البلدان أو السلطات القضائية التي تعاني قصوراً إستراتيجياً خطيراً في مكافحة غسيل الأموال وتمويل الإرهاب وتمويل انتشار التسلح. بالنسبة لجميع البلدان التي حُدّدت على أنّها عالية المخاطر، تدعو مجموعة العمل المالي جميع الأعضاء، وتحثّ الولايات القضائية على تطبيق العناية الواجبة المعززة، وفي أكثر الحالات خطورة، تُدعى البلدان إلى تطبيق تدابير مضادة لحماية النظام المالي الدولي من الأزمة المستمرة.
الدول المدرجة على القائمة الرمادية للعام 2024 هي:
بلغاريا، بوركينا فاسو، كاميرون، كرواتيا، كونغو، هايتي، جامايكا، كينيا، مالي، موزمبيق، نامبيا، نيجيريا، الفيليبين، سنغال، جنوب افريقيا، السودان، سوريا، تانزانيا، تركيا، فيتنام، اليمن.
الدول المدرجة على اللائحة السوداء هي: كوريا الشمالية، إيران، ميانمار.