بعد 46 سنة في الضمان، خرجت من دون أيّ شيء"، بهذه العبارة شارك يوسف بو منصف "الصفا نيوز" معاناته مع أزمة تعويضات نهاية الخدمة. وأضاف "خدمت في كلية بيروت الجامعية بين الـ 1978 والـ 1984، ثم عملت في مؤسسة كهرباء لبنان من الـ1984 إلى الـ2024، وبعد 46 سنة خدمة في القطاع العام، كان من المفترض أن يراوح تعويض نهاية خدمتي بين الـ370 ألف دولار والـ 400 ألف. لكن ما حصلت عليه لم يتخطّ الـ 2100 دولار، وتسلمت المبلغ شيكاً مصرفياً، خسرتُ 30 في المئة من قيمته بعدما صرفته في السوق السوداء، لانّ جميع المصارف التي قصدتها رفضت قبوله. والآن، أنا من دون راتب تقاعدي، ولا تغطية استشفائية ولا طبابة. والمبلغ الذي تقاضيته لا يكفيني وزوجتي ثمن أدوية. فمصروف فاتورة المولّد والكهرباء وتشريج تليفونات وانترنت وهاتف المنزل 400 دولار في الشهر، من دون أكل وشرب وبنزين وملبس!".
لقمة مغمّسة بالذلّ
في الإطار نفسه، قال جريس بو مارون"بعد 26 سنة خدمة في الجيش اللبناني، في الحرب والسلم، أصبح راتبي التقاعدي مع آخر زيادتين، 220 دولاراً. فيما فاتورة الكهرباء والمولّدات 300 دولار. والـ 220 دولاراً جاءت بعد سلسلة تظاهرات واحتجاجات أمام مجلس النواب".
ولفت بو مارون إلى أنّ "80 في المئة من العسكريين المتقاعدين خرجوا من الخدمة وهم يعانون من إصابات، وبالتالي يصعب عليهم إيجاد وظيفة، كما أنّ عمرهم لا يسمح لهم بالعمل... فمين بعد بشغّلنا؟".
ويضيف "تقاعدت قبل 7 سنوات، وكان راتبي ألف دولار، وكنت أعيش بكرامتي، أمّا اليوم فأصبحت لقمتنا مغمّسة بالذلّ بسبب فساد هذه السلطة السياسية".
وحال يوسف وجريس كحال جميع موظّفي القطاع العام والأسلاك العسكرية الذين، بعد أن أفنوا حياتهم في الخدمة العامة، خرجوا من دون الحصول على أبسط حقوقهم، وهي تعويضات كريمة تحميهم في شيخوختهم.
تعويضات نهاية الخدمة خسرت 98 في المئة من قيمتها
بعد اندلاع الأزمة الاقتصادية في العام 2019، خسرت تعويضات نهاية الخدمة، والرواتب التقاعدية، 98 في المئة من قيمتها الحقيقية، نتيجة الانهيار الدراماتيكي لليرة اللبنانية مقابل سعر صرف الدولار. ولم يلتفت المعنيون إلى أزمة التعويضات إلّا بعد مرور 5 سنوات على الأزمة الاقتصادية، إذ تطرّقت وزارة المال إلى هذه المسألة لأوّل مرّة عبر المادة 93 في مشروع موازنة العام 2024، وقد نصّت على "معالجة استثنائية لتعويضات نهاية الخدمة وفقاً لأحكام المادة 51 من قانون الضمان الاجتماعي". وحسب المادة المذكورة "تعدل المادة 51 من قانون الضمان الاجتماعي (المرسوم الاشتراعي الرقم 13955\1963 وتعديلاته) استثنائياً، إلى حين إعادة تقييم جميع تعويضات نهاية الخدمة وإصدار قوانين عادلة، حيث يحدد مقدار تعويضات نهاية الخدمة على الوجه التالي: يحتسب تعويض نهاية الخدمة بما يعادل عن كل سنة خدمة الأجر الذي تقاضاه صاحب العلاقة خلال شهر كانون الأول 2023 عن سنوات الخدمة لما قبل 31\12\2023 على أساس 15،000 ليرة للدولار الواحد. كما يعادل عن كل سنة خدمة الأجر الذي تقاضاه صاحب العلاقة خلال شهر كانون الأول من كلّ عام أو خلال الشهر الذي سبق تاريخ نشوء الحق بالتعويض بعد 1\1\2024 عن كل سنة خدمة وفقاً لأحكام قانون الضمان الاجتماعي".
إلغاء المادة 93 من مشروع الموازنة
هذا يعني أنّ وزارة المال ضاعفت تعويضات نهاية الخدمة 10 مرات، عبر احتسابها على سعر صرف 15 ألف ليرة. إلاّ أنّ هذه المادة "ألغيت بعدما وُضعت على عجل، لكونها مادة غير مدروسة" بحسب رئيس الاتحاد العمالي العام الدكتور بشارة الأسمر.
وأكّد الأسمر لـ"الصفا نيوز" أنّ "جميع موظّفي القطاع العام لا يزالون يتقاضون تعويضاتهم على أساس راتبهم وفق سعر صرف الدولار القديم، أي 1500 ليرة. وينضمّ إليهم موظفو الأسلاك العسكرية والمؤسسات العامّة الذين تحددت تعويضاتهم وفق سلسلة الرتب والرواتب في الـ2017، والقاعدة نفسها تنطبق على موظّفي البلديات واتحاد البلديات. وأعطى مثالاً عن موظف في إحدى البلديات خرج من الخدمة قبل مدة قصيرة وتقاضى تعويضاً مقداره 37 مليون ليرة، أي 400 دولار".
ويلفت الأسمر إلى أن موظفي المصالح المستقلة كالمرفأ، ومؤسسة كهرباء لبنان، وأوجيرو، والريجي، ومؤسسة المياه، والمستشفيات الحكومية، "يخضعون لقانون العمل واستفادوا من زيادات غلاء المعيشة ورفع الحد الأدنى للأجور، وأصبحوا يتقاضون تعويضاتهم وفق الحدّ الأدنى للأجور الذي رفع أخيراً إلى 18 مليون ليرة. أي ضُرب تعويضهم بـ20 مرّة، فيما كان من المفترض أن يُضرب بـ60 ضعفاً، ليوازي القيمة التي كانت له قبل الأزمة".
تخفيض الشطور
وعن الضرائب المفروضة على الدخل، أجاب الأسمر "خفّضنا الكسب لمن يتقاضى حتى الـ 800 مليون ليرة في السنة، وخفّضنا نسب الضريبة على الشطور. علماً أن الشطور التي تصل إلى 800 مليون ليرة في السنة لا تخضع لضريبة دخل، وكلّ ما يتخطى الـ800 مليون ليرة يخضع لضريبة تصاعدية تبدأ بـ 2 في المئة".
مشاريع قوانين لحلّ أزمة التعويضات
وعن الحلول المتصلة بأزمة تعويضات نهاية الخدمة، أجاب الأسمر "عملنا كاتحاد عمّالي عام، مع عدد من النواب، منهم النائب شربل مسعد، على اقتراح قانون معجّل مكرر ينصّ على دفع التعويضات على سعر الصرف الرسمي القديم أي 15 ألف ليرة، وضربها بـ15 ألف ليرة، وهذا ما سيرفع من قيمتها 10 أضعاف، على أن تقسّط على أربع مراحل (أي 4 سنوات)، أي من يبلغ تعويضه مليار ليرة، يتقاضى من تعويضه 250 مليون ليرة كلّ سنة. وإذا ما قورنت بمتوسّط التعويض في آخر العام 2018، يصبح تعويض الفرد مضروباً بـ10 أضعاف".
ويتحدّث الأسمر عن "تقدّم النائب طوني فرنجية بمشروع قانون ينصّ على دفع تعويضات نهاية الخدمة للموظفين على سعر الصرف المتداول إذ تُقسّم التعويضات وفق سعر الصرف الرسمي (وهو حالياً 15 ألف ليرة) وتضرب بسعر منصّة صيرفة (على سبيل المثال لا الحصر)، وبالتالي ترتفع التعويضات ارتفاعاً يراوح بين 6 و 7 أضعاف".
كذلك هناك اقتراح قانون ثالث تقدّم به النائب فيصل كرامي، للمضمونين، أي المنتسبين إلى الصندوق الوطني للضمان الاجتماعي، كون الضمان ثلاثي التمثيل (الدولة، أصحاب العمل، العمال) يناقش مضاعفة التعويضات 30 مرّة.
الضمان الاجتماعي هو المعضلة الكبرى!
في سياق متصل، يشرح الخبير الاقتصادي د. خلدون عبد الصمد لـ"الصفا نيوز" أنّه "في المرحلة الأخيرة برزت مساع رسمية لتحسين رواتب موظفي القطاع العام، ومعها تعويضات نهاية الخدمة، إذ رفع الحدّ الأدنى للأجور إلى 18 مليون ليرة. إلّا أنّ هذه التحسينات لا تزال بعيدة كلّ البعد عن الواقع المعيشي لأبسط أسرة لبنانية، فمن كان راتبه ألف دولار أصبح اليوم 150".
وعن المادة 93 من مشروع موازنة 2024، يقول عبد الصمد "احتساب التعويضات على سعر الـ15 ألف ليرة لا يزال قراراً ظالماً بحق الموظفين، لأن الفرق شاسع بين سعر الـ15 ألف ليرة وسعر صرف السوق السوداء. كما أنّ جميع الضرائب، في الموازنة الجديدة، تحتسب وفق سعر صرف الدولار 89500 ليرة".
والحلول، بحسب عبد الصمد، تكمن "في المساواة بين ما تحتاج إليه العائلة في لبنان وما يتقاضاه الموظف. وبما أنّ الأسعار عادت إلى ما كانت عليه قبل الأزمة، يجب أن تعود الرواتب إلى ما كانت عليه سابقاً. إلاّ أنّ القرارات التي تصدر عن الجهات الرسمية لا تنتج من دراسات اقتصادية، وهو ما يغرق المصرف المركزي في المزيد من الديون، ويستنزف الاحتياط والودائع".