رسمت المسيّرات والصواريخ الإيرانية فجر الـ14 من نيسان الجاري واقعاً ديبلوماسياً وسياسياً جديداً قبل المعادلة العسكرية. هي سياسة الحياكة الباردة التي لطالما برعت وتفردت طهران في انتهاجها دون غيرها، والتي جعلتها عملياً خلال الساعات القليلة الفائتة في مصاف اللاعبين الكبار. فبغضّ النظر عن حجم النتائج التي سيسرع كثيرون ممن يدورون في فلك المحور المعادي لطهران إلى التقليل من أهميتها، إلا أنها واضحة بما لا يقبل الشك في أنّ مجرد اتخاذ قرار الرد وحجم الرد وما سبقه من رسائل، بالغ الأثر جدّاً.
ديبلوماسياً، حذرت طهران واشنطن بعظمتها العسكرية من أنّ أي ردّ للدفاع عن تل أبيب سيقابله ردّ قد يدخل المنطقة في نتائج لا تحمد عقباها، وهذا ليس مصادفةً. انتظرت إيران ما يقارب الأسبوعين من المجتمع الدولي إدانة إسرائيل على فعلتها باستهداف القنصلية الايرانية في دمشق، وعدم صدور أي إدانة، وضع بين أيدي قادة الحرس الثوري حجة قوية غير قابلة للنقاش. وأن يتزامن التوقيت أيضاً مع ما يشغل واشنطن (الانتخابات الاميركية) فهو ليس براعة من إيران بقدر ما هو سوء تقدير من قبل رئيس وزراء العدو بنيامين نتنياهو لأنه هو الذي بادر بالفعل.
الحزب يمتلك قدرات أكبر وأكثر مما أطلقت ايران على إسرائيل
وسياسياً، لا يخفي كثير من المراقبين أنَّ الرد الايراني رسم خريطة طريق لسياسة جديدة ربما تجعل دول المنطقة أقرب إلى تطبيع علاقاتها مع طهران منها مع تل أبيب، والتي كانت عازمة عليها بعض الدول العربية قبل هجوم السابع من تشرين الأول الفائت، يوم قررت حماس مباغتة العدو بهجوم أظهر ما أظهر من هشاشة وضياع. فماذا يمكن أن تبيع تل ابيب للعرب بعد اليوم؟ وهي التي عجزت عن الدفاع عن نفسها رغم ما تبع ذلك من جنون عسكري حوّل غزة الى كومة ركام. ولكن متى كانت تقاس نتائج الحروب بالقدرة التدميرية وليس بالاهداف التي قامت على أساسها؟ ألم يكن الهدف المعلن لنتنياهو في الثامن من تشرين الأول القضاء على حماس وإرجاع جميع الأسرى؟ حماس نفسها التي لم تتردد في إطلاق الصواريخ على الكيان بعد ساعات من انسحاب 3 فرق إسرائيلية مؤللة من خان يونس. حتماً ليس هذا ما كان يرجوه جيش العدو رغم محاولاته الحثيثة لحرف الأنظار نحو رفح في جنوب القطاع على أساس أن نتائج اقتحامها ستكون باكورته العسكرية.
ويتزامن كل هذا مع تأييد شعبي فلسطيني لحماس تصل نسبته الى 70 في المئة بعد ما يقارب الـ7 أشهر من الحرب وفق المركز الفلسطيني للبحوث السياسية والمسحية، رغم الحصار والتجويع والتهجير والتنكيل والقتل، وعلى مقلب ثان احتجاجات في عواصم العالم هبت لمناهضة أنظمتها الداعمة لإسرائيل، وهذا كله نصر لا تقل أهميته الإستراتيجية عمّا يتم تحقيقه في الميدان أو على جبهات المساندة.
عسكرياً، اكتفى الحرس الثوري الإيراني باستخدام 3 أنواع من ترسانته المتنوعة، أولها مسيّرات من نوع شاهد-136، يصل مداها الى 2000 كيلومتر، بسرعة تصل إلى 185 كيلومترا/س، كما يمكنها التحليق نحو 10 ساعات متواصلة، وهي قادرة على حمل 50 كيلوغراماً من المواد المتفجرة. وتطلَق هذه المسيّرات من منصات على شكل أسراب.
كيف لإسرائيل أن تتحمّل سيناريو مشابهاً يمتد لأيام مثلاً أو أسابيع؟
أما النوع الثاني فهو صاروخ كروز وهو من منظومة الصواريخ المجنحة والمصممة من قبل الصناعات الجوفضائية لوزارة الدفاع الإيرانية. يصل مداه إلى أكثر من 1350 كيلومتراً ويستخدم ضد الأهداف الأرضية الثابتة، ولديه قدرة تدميرية عالية بمميزات مهمة للتخفي وهو دقيق الإصابة. بينما صاروخ خيبر شيكان وهو أحدث طراز من جيل الصواريخ الباليستية البعيدة المدى ، هو من فئة صواريخ أرض-أرض ويتميز بالقدرة على حمل رؤوس حربية عدة بدلاً من رأس واحد وبسهولة تجهيزه وإطلاقه، ويصل مداه الى 2000 كلم بسرعة تتجاوز عشرة آلاف كيلومتر/ساعة، ووزن الرأس الحربي الذي يحمله يصل الى 1500 كيلوغرام بدقة إصابة 30 متراً مقارنة بمدى ألفي كيلومتر.
أما في ما يخص اليوم، وحتى اليوم التالي، فلا يمكن التقليل من حجم الإنجاز الذي حصل والمستمرة تبعاته حتى الغد وما بعد الغد، والذي كان قراره بيد الكابينت الإسرائيلي حتى ما قبل الأول من نيسان الجاري (تاريخ استهداف القنصلية الايرانية)، إلى الساعة، ليس مفهوماً ما إذا كان القدر هو الذي رجّح ميزان كفة طهران أم التسرع والتخبط الذان يسيطران على تصرفات نتنياهو في الفترة الأخيرة.
في اليوم التالي، سيدخل مشهد فجر الـ14 من نيسان في صلب حسابات اسرائيل قبل أي استهداف لعنصر أو هدف ايراني في سوريا على نسق المعادلة التي رسمها حزب الله بُعيد استهداف جهاد عماد مغنية ورفاقه في الجولان قبل سنوات، إذ لم يتوانَ الحزب عن الرد حينذاك في مزارع شبعا، وهو ما فرض معادلة ألا تُقصف مراكزه وعناصره داخل سوريا الى ما قبل حرب غزة.
وفي اليوم التالي أيضاً، لا بدّ أنّ هناك من درس حجم الهجوم الإيراني ولا يخفى عليه أنه من البديهي أن حزب الله المرابط على حدوده الشمالية يمتلك أكثر مما أطلقت عليه طهران أول من أمس من حيث الكمية والنوعية بأضعاف مضاعفة، وهذا ما تعتبره تهديدها الأول والأكبر، ليس نقله المادي فحسب انما نقل خبرات تصنيعه الى لبنان واليمن والعراق وسوريا. وما الغارات التي تستهدف عمق البقاع وآخرها في الأمس سوى خير دليل على ذلك. كيف لإسرائيل أن تتحمّل سيناريو مشابهاً يمتد لأيام مثلاً أو أسابيع؟ ألا يملك الحزب القدرة على ذلك؟ وربما بغزارة أكبر ومن دون سابق إنذار كما كان متوقعاً من إيران بحكم أنها تملك جيشاً كلاسيكياً ولها حساباتها الدولية والاقليمية التي تفرض نفسها.
لربما هذه الرسالة بالنسبة إلى طهران أبلغ من حجم الاضرار أو لربما مجرد تحليق الصواريخ والمسيّرات فوق أهدافها قبل لحظات من إسقاطها رسالة ثانية أبلغ، كل ذلك يرسم معالم اليوم التالي الذي سارعت واشنطن الى لملمته مطلقةً تحذيرات واضحة تردع العدو من الرد على رد إيران العسكري تحت تعابير سياسية منمقة لن تُفلح في إعادة ترميم الهيبة الإسرائيلية رغم وصف التصدي للصواريخ والمسيّرات بالعمل البطولي واعتباره نصراً. من كان ليتخيل أن يأتي على إسرائيل يوم تعتبر فيه رد الصواريخ والمسيّرات الإيرانية بمعاونة نصف دول حلف الناتو (أميركا وفرنسا وبريطانيا) انتصاراً؟