الهزيمة المدوّية التي تعرّض لها حزب العدالة والتنمية الحاكم في تركيا في الانتخابات المحلّية، شكّلت منعطفاً مهمّاً في الحياة السياسية، التي يهيمن عليها الحزب بزعامة الرئيس رجب طيب أردوغان منذ عام 2002.
أثبتت النتائج التي حصد فيها حزب الشعب الجمهوري الغالبية للمرّة الأولى منذ عقود، أنّ الوضع الاقتصادي السيىء الذي أتى بحزب العدالة والتنمية إلى الحكم قبل أكثر من عقدين، هو نفسه العامل الحاسم اليوم الذي يجعل الأتراك يتخلّون عن الحزب المحافظ ذي الجذور الإسلامية.
ما لا شكّ فيه، أنّ أردوغان استطاع في العقد الأول من حكمه أن ينعش الاقتصاد التركي، واستمرّ الحال هكذا إلى ما بعد 2015، لتبدأ مرحلة التعثّر لأسباب متّصلة بسياسات محلية كتمسّك الرئيس التركي بخفض أسعار الفائدة لمكافحة التضخّم، بينما المدرسة التقليدية لاقتصاد السوق تسارع إلى رفع الفائدة في هذه الحال. وتعمّقت الأزمة الاقتصادية أكثر بعد اغلاقات كورونا ومن بعدها الحرب الروسية-الأوكرانية. يكتوي الأتراك اليوم بنسبة تضخم تقارب الـ70 في المئة، بينما فقدت الليرة 80 في المئة من قيمتها في مقابل الدولار في السنوات الخمس الأخيرة، على رغم تغيير أكثر من ثلاثة حكّام للبنك المركزي في ثلاثة أعوام.
أمّا في الحسابات السياسية، وهذا هو المهم، فإنّ فوز حزب الشعب الجمهوري المعارض بالمدن الرئيسية الثلاث، اسطنبول وأنقرة وأزمير، بعث برسالة قوية إلى أردوغان، الذي سيكون مرغماً على إعادة النّظر على الأقلّ في خططه لتعديل الدستور، كي يحقّ له الترشّح لولاية جديدة عام 2028.
صحيح أنّ حزب العدالة والتنمية يملك غالبية برلمانية لتعديل الدستور. لكن للمصادقة النهائية على التعديل يتعيّن تنظيم استفتاء شعبي. وفي ظلّ ما أفرزته الانتخابات المحلّية، لم يعد مأموناً المضيّ في سيناريو كهذا.
ولطالما جرى اعتبار اسطنبول، التي يبلغ حجم اقتصادها تريليون دولار أي نصف إجمالي النّاتج القومي التركي، مقياساً للتأييد الذي تحظى به الأحزاب والشخصيات في تركيا. أردوغان نفسه انطلق من رئاسة بلدية اسطنبول عام 1994 وأوصلته بعد ذلك إلى الرئاسة. واليوم من الممكن أن يصحّ هذا المقياس على أكرم امام أوغلو رئيس بلدية اسطنبول الذي احتفظ بمنصبه بفرق أكثر من 11 نقطة عن مرشّح حزب العدالة والتنمية مراد كوروم وزير البيئة والتحضر السابق، على رغم إلقاء أردوغان كلّ ثقله في الحملة الانتخابية.
هكذا وضعت الانتخابات تركيا أمام مشهد سياسي جديد، على رغم فوز أردوغان في الانتخابات الرئاسية قبل 11 شهراً فحسب. لكنّه كان فوزاً تسبّبت به المعارضة نفسها، عندما أصرّ زعيم حزب الشعب الجمهوري كمال كليتشدار أوغلو على أن يكون هو نفسه مرشح المعارضة، وعدم افساح المجال أمام وجوه شابّة على غرار امام أكرم أوغلو أو منصور يافاش رئيس بلدية أنقرة كي يكون أحدهما مرشحاً للحزب. ولم تتردّد زعيمة حزب الجيد المعارض ميرال أكسنير في إعلان معارضتها وقتذاك لترشيح كليتشدار أوغلو وتفضيلها علناً ترشيح أكرم أوغلو. لربما كانت نتائج الانتخابات الرئاسية أتت مختلفة لو أصغى حزب الشعب الجمهوري لنصيحة أكسنير. وبالمحصلة، أهدرت المعارضة ولا شكّ فرصة تاريخية لإلحاق الهزيمة بأردوغان بسبب أدائها السيّىء.
وضعت الانتخابات تركيا أمام مشهد سياسي جديد، على رغم فوز أردوغان في الانتخابات الرئاسية قبل 11 شهراً فحسب.
أكثر من يحسن قراءة النتائج الأخيرة هو أردوغان نفسه. لم يتأخّر في الإقرار بأنّ تركيا تقف الآن عند "نقطة تحوّل". هو كان قال قبل فترة أنّ ولايته الحالية "ستكون الأخيرة". وبدأت تسري تكهنات عن إعداد الحزب الحاكم شخصيتين بارزتين للترشّح عن حزب العدالة والتنمية في 2028، هما وزير الخارجية حقّان فيدان، الآتي من خلفية الأمن والاستخبارات أو صهر أردوغان، سلجوق بيرقدار صاحب مصانع مسيّرات "بيرقدار" التي طبقت شهرتها الآفاق في حروب أوكرانيا وأذربيجان وليبيا.
بيد أنّ مضي أردوغان في الإعداد للتعديل الدستوري، اعتبر مسعى صريحاً منه كي يترشح مجدّداً في 2028. هل يغامر أردوغان في ضوء نتائج الانتخابات المحلية بالمضي في تعديل الدستور؟ أم يفسح المجال أمام فيدان أو بيرقدار، كي يخوض أحدهما الانتخابات الرئاسية ويكتفي هو بأن يكون "الرجل القوي" الذي يحرّك السياسات من المقعد الخلفي على طريقة زعماء كثر اختاروا التنحّي عن ممارسة السياسة مباشرة وإدارتها من وراء الكواليس؟
يمكن القول بأريحية إنّ الانتخابات المحلّية أحدثت التوازن في السياسة التركية، ولم يعد في إمكان أردوغان التغنّي بأمجاد انتصاراته السابقة بعدما استفاق في الأول من نيسان على واقع جديد يؤكّد خسارته الغالبية الشعبية للمرّة الأولى منذ عام 2002. تلك هي الحقيقة المرّة التي يتجرّع كأسها الرئيس وحزبه اليوم.
لو تمكّن أردوغان من استعادة اسطنبول، لكان في إمكانه الإعلان منذ الآن عن فتح معركة رئاسة 2028، لكن "تسونامي" المعارضة بحسب أحد مستشاري إمام أوغلو، يفرض إعادة الحسابات والتمعّن أكثر في أسوأ هزيمة للحزب الحاكم منذ 22 عاماً. إنّ حزب الشعب الجمهوري المعارض لم يكن يتوقّع أن يتجاوز الـ 25 في المئة في أيّ انتخابات على المستوى الوطني، بينما حقّق اليوم 38 في المئة متجاوزاً حزب العدالة والتنمية بنقطتين على الأقلّ.
إذن، الأزمة الاقتصادية لعبت الدور الحاسم في جعل الناخبين يتخلّون عن الحزب الحاكم ويرسمون خريطة سياسية جديدة لتركيا، فهل يلجأ أردوغان إلى خطوات مثل إعادة تركيا إلى النظام البرلماني، بحسب ما نقلت مجلة "الإيكونوميست" البريطانية عن مراقبين، أم يترك رئيساً من المعارضة يتولّى الرئاسة بصلاحيات أعدّها هو نفسه لتكون على مقاسه هو وحده؟ "سيناريو كهذا سيعدّ كابوساً"، تضيف المجلة.