أدخل القطاع الاستشفائي في لبنان منذ العام 2019 إلى العناية الفائقة، بعد أن ألقت الأزمة الاقتصاديّة بظلالها عليه، لتصبح كلفة الاستشفاء في لبنان محصورة بالطبقة الغنية عقب ارتفاع الفاتورة الصحيّة بشكل جنوني، نتيجة انهيار سعر صرف الليرة اللبنانية مقابل الدولار. هذا الواقع أدّى إلى تعثّر عمل الجهات الضامنة، لتصبح النسبة الكبرى من الإنفاق الصحّي تدفع من جيب المواطن مباشرة. وبعد 5 سنوات على اندلاع الأزمة، بدأت تظهر محاولات رسمية لإنعاش القطاع الصحّي. المحاولة الأولى جاءت مع موازنة عام 2024 متمثلة في رفع موازنة التغطية الصحية وتغطية الأدوية، أمّا المحاولة الثانية، فهي العمل على إقرار نظام تغطية صحّية شاملة.
رفع التغطية الصحيّة في موازنة الـ 2024
تواصل "الصفا نيوز" مع رئيس اللّجنة النّيابيّة الفرعيّة المكلّفة درس اقتراح القانون المتعلّق بالتّغطية الصّحيّة الشّاملة، النائب بلال عبد الله، الذي شرح في حديث خاص أنّه "ستكون هناك زيادة في سقوف المستشفيات الخاصة ستة أضعاف وفي المستشفيات الحكومية تسعة أضعاف. أمّا بالنسبة إلى تغطية المرضى، فستصبح فاتورة الاستشفاء في القطاع الخاص 65% على نفقة الوزارة وفي القطاع العام 80%"، معتبرا أنّ "رفع موازنة التغطية الصحية وتغطية الأدوية في موازنة 2024 كان استثنائياً".
وعن مشكلة تأخّر الجهات الرسميّة في الدفع للمستشفيات ما قد يجعل الأخيرة تطالب المواطن بدفع فرق التغطية، أجاب "بموازنة الـ 2024 أدخلنا بنداً يلزم وزارة المال بأن تدفع مسبقاً 30% من سقف الأموال المقرّرة للمستشفيات، وهذا قد يخفف من حالات موت المرضى على أبواب المستشفيات، أو رفض بعض المستشفيات استقبال المرضى أو اضطرار بعض هؤلاء إلى الدفع سلفاً".
مستحقّات المستشفيات الخاصّة لا تزال عالقة
وعن مستحقّات المستشفيات الخاصّة العالقة، أجاب النائب عبدالله "هذه المستشفيات تتلقّى الدفع بالكاش منذ أكثر من عامين من جيوب المواطنين الخاصّة، في حين أنّ مستحقّاتها القديمة على سعر الصرف القديم 1500 ليرة، وما نتحدّث عنه اليوم في موازنة الـ 2024 هو عقود جديدة بسقف مالي جيد جداً، ونأمل أن تلقى هذه الخطوة تجاوباً من قبل جميع المستشفيات. كما أنّ وزير الصحّة فراس الأبيض كان قد قام بجولة على جميع المستشفيات الخاصة والحكومية في لبنان ووضعها في هذه الأجواء، ولن نقبل بأيّ حجّة جديدة".
أمّا عن أدوية وعلاجات الأمراض المستعصية فلفت إلى أنّه "تمّ اختصار بعض بروتوكولات العلاج لهذه الأمراض، ولُحظ ألف مليار ليرة شاملة شهرياً لأدوية أمراض السرطان من احتياط الموازنة"، موضحاً أنّ " تعسّر تسليم الأدوية الشهر الماضي كان بسبب روتين إخراج الأموال من مصرف لبنان".
مشروع التغطية الصحية الشاملة
وعن مشروع التغطية الصحيّة الشاملة، شرح عبد الله أنّ هذا المشروع يحتاج إلى وقت، وهو قيد الدرس والبحث مع أعضاء اللجنة، "ونحن نأخذ في الوقت الحالي ملاحظات جمع أعضاء الكتل النيابية، ووزارة المال، والبنك الدولي، ومنظّمة الصحّة العالمية… ".
ومشروع التغطية الصحّية الشاملة يشمل كلّ المرضى الذين لديهم تغطية من صندوق رسمي، وهو يضمّ رزمتين شاملتين وأساسيّتين، يضيف عبد الله، "الرزمة الأولى تغطية دوائيّة يستفيد منها كلّ الشعب اللبناني، والتغطية الثانية هي رعاية صحيّة، في المستشفيات الحكومية ومراكز الرعاية الصحية وتشمل أيضاً الكشف المبكر عن بعض الأمراض".
كيف تنقسم الخدمات الصحيّة بحسب الجهات الضامنة؟
قال رئيس الإتحاد العمالي العام في لبنان الدكتور بشارة الأسمر لـ"الصفا نيوز": "الخدمات الصحّية الرعائيّة لموظّفي القطاع العام تنقسم إلى 3 أقسام رئيسيّة: موظفو القطاع العسكري يستفيدون، وعلى رأسهم الجيش، من خدمات المستشفى العسكري ومستشفيات أخرى. وبقية الأسلاك العسكريّة تستفيد من الاستشفاء بالتعاقد مع المستشفيات وتسديد الفواتير. والقسم الثاني يضم موظفي بعض الإدارات العامّة، الذين يستفيدون من خدمات تعاونية موظّفي الدولة التي من المفترض أن تسدد 80% من فاتورة الطبابة و90% من فاتورة الاستشفاء. أمّا القسم الثالث فهو للموظفين الخاضعين لقانون العمل، (الإدارات العامة والمستشفيات الحكومية والمصالح المستقلة) وهؤلاء يستفيدون من تقديمات الصندوق الوطني للضمان الاجتماعي بنسب تتوزع بين 90% استشفاء و80% طبابة".
ويتابع الأسمر "هذه التقديمات ضَؤلَت منذ الـ 2019 إلى أن أصبحت شبه معدومة بعد تدهور الوضع الاقتصادي الذي نحن فيه، إلاّ أنّ تغطية غسيل الكلى بقيت 100% والمستشفى العسكري بقي يؤمّن طبابة بنسب عالية لكلّ العسكريين والمتقاعدين في الجيش اللبناني، وهنا نشيد بحكمة قائد الجيش الذي أسس جناحاً ضخماً في المستشفى العسكري يضاهي أهمّ مستشفيات لبنان. أمّا تعاونيّة الموظفين فقد شهدت منذ أكثر من عام تطوّراً نوعياً مهمّاً بعد رفع التقديمات من طبابة واستشفاء إلى نحو 5 % ومن ثمّ إلى 60% بعدما تأمّنت بالموازنة مبالغ محدّدة ومهمّة لتعاونية الموظفين وصلت إلى 500 مليار ليرة. وهذا بفضل جهود الدكتور يحيى خميس".
أزمة الضمان
لتبقى المشكلة، بحسب الأسمر، في تغطية الضمان، "فالاشتراكات كانت على الـ1500. وبعدما أصبح الحدّ الأدنى للأجور 18 مليون ليرة اليوم، والحد الأقصى للكسب الخاضع للاشتراكات 90 مليوناً، أي 5 مرّات الحدّ الأدنى، صار بإمكان الضمان معرفة الموظفين الذين يتقاضون رواتبهم بهذه الحدود ولا يتمّ التصريح عنهم، وأصبح هناك مداخيل مهمّة للصندوق الوطني للضمان الاجتماعي تؤهله لرفع تقديماته الاستشفائيّة إلى الـ60 والـ70% من أصل المبالغ المقطوعة المحددة في وزارة الصحة للاستشفاء والطبابة".
إلّا أنّ ما نطمح إليه، يتابع الأسمر، هو رفع النسب مع بدء تطبيق رفع الحدّ الأدنى للأجور (الـ 18 مليون ليرة) من الأوّل من الشهر الجاري إذ من المفترض أن يقرّ في جلسة مجلس الوزراء اليوم. معتبراً أنّ "هناك تباعداً ما بين التصاريح السياسيّة الرسميّة والتطبيق على الأرض خاصّة في ما يتصل بأدوية أمراض السرطان والأمراض المستعصية، لأنها غير متوافرة في الأسواق. كما أنّ الفاتورة الاستشفائية تبقى عالية على الرّغم من رفع التغطية الصحّية، ذلك أنّ الفروق التي يجب على المواطن تسديدها بين الهيئات الضامنة والمستشفيات، والتي تراوح بين 30 و 50%، لا تزال مرتفعة مقارنة بما يتقاضاه، وهي "تفوتر" بالدولار الفرش في المستشفيات الحكومية والخاصّة حيث يكون الدفع بالدولار مسبقاً، وهنا تأتي أهميّة دعم المستشفيات الحكومية بأيّ وسيلة ممكنة، وخاصةً عبر المساعدات التي تأتي من الدول المانحة، لتتمكن من القيام بواجباتها".
الأجراء المكتومون والتهرّب من التصريح
وطرح الأسمر مشكلة "الأجراء المكتومين الذين يتقاضون رواتبهم بالدولار الأميركي، ولا يصرّحون للدولة عن أجرهم الحقيقي، فضلاً عن الأجراء الذين لا تصرّح عنهم المؤسسات، وهؤلاء لا يحصلون على أيّ نوع من التغطيات الصحّية. وشدد على ضرورة أن تصرّح المؤسسات عن الأجر الفعلي للصندوق الوطني للضمان الاجتماعي ليتمكّن الصندوق من تحسين خدماته، ويعيدها إلى الحال الذي كانت عليه قبل العام 2019، وتتيح للمضمون أن يحصل على التقديمات اللازمة من طبابة واستشفاء وتعويضات نهاية الخدمة".
لا شكّ في أنّ التغطية الاستشفائيّة في لبنان بدأت تأخذ مسارها نحو الحلحلة، إلّا أنّ هناك العديد من التحديات التي تعرقل عملها، وعلى رأسها أزمة سعر الصرف وأزمة التمويل. وإنْ كانت الجهود المصبوبة على هذا الملفّ متواضعة اليوم، فإنّها أولى خطوات الحلّ إلى أن تستعيد الدولة عافيتها الاقتصادية.