"الوثيقة" التي أعدّتها بكركي كـ"مبادرة وطنيّة جامعة"، وتخضع في مرحلة أولى لمناقشة دقيقة مع القوى والأحزاب السياسية الوازنة في البيئة المسيحية، قبل طرحها على سائر المرجعيات الروحية والسياسية في مرحلة لاحقة، بدأت تتعرّض لظُلمَين:
الأوّل من بعض أهلها الذين بعلمٍ منهم أو بجهل، يحاولون صبغها بطابع فئوي طائفي ضيّق، وكأنها موجّهة ضد المكوّنات الوطنية الطائفية الأخرى، وخصوصاً الطائفة الشيعية.
والظلم الثاني من هذا المكوّن تحديداً برفعه المسبق سيف الشك والرفض في وجهها، وكأنها تستهدفه وتستعديه، خلافاً لحقيقتها.
في الواقع، وبعيداً من التوصيفات والقراءات المجزوءة والمغلوطة، يطغى الطابع الوطني بشكل حاسم على الطابع الطائفي في مشروع هذه الوثيقة، وقد حرص واضعوها على ربطها بالتاريخ التأسيسي الذي طبع الصرح البطريركي ورؤيته الواسعة للبنان الوطن والدولة والدور والرسالة ونعمة التنوّع، وتأتي ما يُسمّى بـ"الحقوق المسيحية" في المرتبة الثانية بعد وضعها تحت راية المشاركة وضرورات العيش المشترك، وليس كشعار تحدٍّ أو مواجهة أو مجرّد تقاسم منافع سلطة مع الطوائف الأخرى.
والواضح أن الهمّ الأساسي لمشروع الوثيقة هو استعادة الدولة حقوقها الشرعية في السيادة وحصرية سلاحها في حماية هذه السيادة، وحيادها عن الصراعات الخارجية، والتزامها قرارات الشرعية الدولية بدون انتقائية واستنسابية، والمواثيق الأممية والعربية، وموجبات الدستور اللبناني، بحيث تكون هذه الدولة حاضنة كلّ المكوّنات بالتوازن والحريّة والعدالة، وتكفل الاستقرار والتفاعل في ما بينها، بما يؤدي حُكماً إلى الازدهار.
ولا يخفى أن معضلة سلاح "حزب الله"، بما يشكّله من افتئات على حصرية حق الدولة في قرار الحرب أو السلم، أو حتى مصادرته بصورة كاملة، تأخذ الحيّز الأهم من النقاش، بهدف تخليصها من دائرة الاستغلال السياسي وحسابات مكاسب النفوذ، ووضعها في إطار تحرير القرار الشرعي، ليس من باب تغليب موقف على آخر وتسجيل نقاط في السياسة والسباق الطائفي، بل من باب معالجة حالة الاختناق التي يفرضها هذا السلاح على المؤسسات والاستحقاقات والتوازنات وعلاقات لبنان الخارجية.
وبينما تلقى الموضوعات الأخرى، في ما يتصل بالشراكة وخروق الدستور وخلل الإدارات والتعيينات والتفرّد بالسلطات، إجماعاً لدى المتحاورين، فإن موضوع السلاح غير الشرعي ومسألة الحياد الإيجابي لا يزالان في حاجة إلى نقاش أعمق.
ولعلّ المتحفّظين عن هذَين الموضوعَين بدأوا يستشعرون ضعف حجّتهم في مبرّرات التحفّظ، خصوصاً لجهة الفرضيّة القائلة بضرورة هذا السلاح للدفاع عن لبنان، تحت الردح المكرّر عن ضعف الجيش. وقد تهافتت هذه الحجّة في "حرب الإسناد والمشاغلة" عبر جنوب لبنان، حيث لم يكن لهذا الدفاع أي أثر في منع الدمار الهائل للبلدات الجنوبية والنزف الدموي المؤلم في صفوف المدنيين والمقاتلين على السواء، وفي حماية عشرات آلاف النازحين والمنكوبين في أملاكهم وأرزاقهم.
فلو كانت الشرعية اللبنانية والدولية، عبر الجيش وقوات الطوارىء، هي التي تحمي الجنوب وتتحمّل مسؤولية أمنه، لَما حصلت كلّ هذه المآسي.
"وثيقة بكركي" تستشرف آفاق الحلول، وتطرح مخارج للبنانيين بكلّ أطيافهم وطوائفهم
ولا يمكن الجمع بين بناء الدولة ووجود قوة مسلّحة خارجها، لأن لا مصلحة لهذه القوة بقيام الدولة. فهل تؤتمن دويلة على سلامة دولة خصوصاً إذا أصبحت فوقها وتتحكّم بسياستها وقراراتها؟
وهل هناك نماذج عالمية وتاريخية عن نجاح ميليشيات في بناء الأمم؟
لا بدّ من أن يقتنع كلّ الذين لا يزالون يتوهّمون هذه الحماية، بخواء تقديرهم، وينخرطون في موقف صريح ضد ازدواجية السلاح والقرار في دولة واحدة، وأن يراقبوا اضطرار "حزب الله" لكسر حدّة مواقفه ولجم سلاحه والتقرّب من العرب بعد استعدائهم زمناً، وكذلك من بعض الداخل، فلا يبقَون ملكيّين أكثر من الملك، لأن الأمور متجهة حكماً إلى سلسلة تسويات لا يكون لبنان خارجها، ولا يحتفظ هذا السلاح فيها بموقع التفرد والإمرة والهيمنة، كما هي الحال منذ سنوات.
والواضح أن المستقبل في المنطقة ليس لمصلحة تنظيمات خارج الدولة كما هي الحال الآن في اليمن والعراق وسوريا ولبنان، بل للدول الوطنية ذات السيادة على قرارها.
لذلك، فإن "وثيقة بكركي" تستشرف آفاق الحلول، وتطرح مخارج للبنانيين بكلّ أطيافهم وطوائفهم، وليس للمسيحيين فقط.
ولا مبالغة في القول إنها مخارج للمأزومين أنفسهم قبل سواهم، للتخلّص من أعبائهم، وأثقلها عبء السلاح، وثقل التزام مشروع خارجي.
ومن هنا، ترسم بكركي طريق الخلاص للبنان، كما كان دائماً شأنها عبر المفترقات المصيرية، ليس فقط في تأسيس لبنان الكبير 1920، بل في استقلالَيه 1943 و2005.
ولا مبالغة أيضاً في القول إن "الوثيقة" الجديدة تؤسس للاستقلال الثالث - الثابت هذه المرة، ولو تطلّب الأمر التوافق العقلاني على صيغة حياة وطنية جديدة تُحقّق حالة انسياب حر بين المكوّنات.
وسيُدرك الجميع أن هذه "المبادرة الوطنية الجامعة" تُكتب لمعارضيها وواضعيها، على حدٍّ سواء.