قد تكون الولاية الرئاسية الخامسة للرئيس الروسي فلاديمير بوتين، هي الأكثر أهمية منذ وصوله إلى الكرملين قبل ربع قرن. وذلك عائد بطبيعة الحال إلى جسامة التحدّيات التي تواجه موسكو في ظلّ الحرب الروسية-الأوكرانية التي دخلت عامها الثالث، والمواجهة الأخطر بين روسيا والغرب منذ انتهاء الحرب الباردة قبل 33 عاماً.
ليس بخاف أنّ رؤية بوتين تقوم على استعادة المكانة الدولية لروسيا التي فقدتها بتفكّك الاتحاد السوفياتي عام 1991 وقيام نظام القطب الواحد الذي يهيمن عليه الغرب، وتحديداً الولايات المتحدة. والسبيل الوحيد الذي يراه الزعيم الروسي لوضع رؤيته موضع التنفيذ، يكمن في ترميم دور الكرملين في "الفضاء السوفياتي" والانطلاق من هناك لممارسة نفوذ في مناطق أخرى من العالم.
وما يراه بوتين حقاً طبيعياً لأكبر قوة نووية في العالم ولبلد فيه 11 توقيتاً زمنياً ويتمتّع بثروات طبيعية هائلة، يدعوه الغرب بـ"الإمبريالية الروسية الجديدة"، التي يتعيّن التصدّي لها. ويعتبر بوتين أنّ الغرب خدع روسيا عندما انقلب على التفاهم الذي وافقت موسكو بموجبه على توحيد ألمانيا عام 1990، في مقابل عدم تمدّد حلف شمال الأطلسي شرقاً نحو الحدود الروسية.
وفي خطابه الشهير أمام مؤتمر ميونيخ للأمن عام 2007، حذّر بوتين الغرب من الوصول إلى الصدام المسلّح، إذا بقيت الولايات المتحدة مصرّة على توسيع الناتو شرقاً. وكان بوتين وقتذاك لا يزال يقيم علاقات ودّية وتعاون مع الغرب، وتحضر روسيا اجتماعات مجموعة الدول الصناعية السبع الكبرى، وتحظى باستثمارات اقتصادية غربية واسعة.
إنّ مزيداً من التقارب الروسي-الصيني هو المتوقّع خلال السنوات الست المقبلة لوجود بوتين في الكرملين
في هذا الوقت كانت روسيا تنمو وتستعيد عافيتها الاقتصادية بفضل عائدات نفطية وغازية هائلة، واستغلّ بوتين ذلك في إعادة اطلاق الصناعات العسكرية وتحديثها بينما الغرب ينظر بحذر وقلق، إلى أن كانت "ثورة الميدان" في أوكرانيا عام 2014 التي أسقطت الرئيس فيكتور يانوكوفيتش المتّهم بموالاة موسكو، وردّ الرئيس الروسي على ذلك سريعاً بضم شبه جزيرة القرم وبدعم تمرّد منطقتي دونيتسك ولوغانسك في شرق أوكرانيا حيث تقطن غالبية متحدرة من أصول روسية.
وسارع الغرب إلى فرض عقوبات على روسيا وأوقف مشاركتها في الاجتماعات السنوية لمجموعة السبع. حتّى أنه يمكن القول إنّ الحرب التي نشبت في 24 شباط 2022، هي تتمة لما حدث في العام 2014.
اعتبر بوتين أنّ الغرب وضع ثقله من أجل إسقاط نظام يانوكوفيتش في "ثورة ملونة" بهدف ضمّ أوكرانيا إلى الناتو، ليصبح الحلف الغربي في قلب "المثلث السلافي" المؤلّف من روسيا وأوكرانيا وبيلاروسيا، ويقضي تالياً على أيّ فرصة لإعادة العظمة لروسيا.
ويستشهد بوتين بالدعم العسكري الغربي الواسع لأوكرانيا منذ 2014 والذي تزايد بعد حرب 2022، ليدلّل على أنّ هدف الغرب في نهاية المطاف تدمير روسيا نفسها وتفتيتها إلى جمهوريات ودول على غرار ما آل إليه الاتحاد السوفياتي، الذي لا يزال الرئيس الروسي يكرّر بأنّ زواله "كان أكبر خطأ جيوسياسي في القرن العشرين".
شعار يتسلّح به الغرب لإثبات أنّ لدى بوتين نيات توسّعية، لن تقتصر على أوكرانيا فحسب، وإنّما يريد العودة أيضاً إلى أوروبا الشرقية التي كانت تدور في الفلك السوفياتي والتي تدور الآن في الفلك الغربي، من البلطيق إلى ألبانيا ومونتينيغرو.
ذهب بوتين إلى الحرب مع أوكرانيا، وفي ذهنه أنّ تلك ستكون الخطوة الأولى لإسقاط النظام العالمي وقيام النظام المتعدّد الأقطاب. وربّما لم يتوقع أن تقاوم أوكرانيا بشراسة وأن يهرع الغرب لنجدتها بهذه القوة، فتطول الحرب ولا يظهر فيها منتصر وتتحول إلى حرب استنزاف قد تستمرّ خلال الولاية الرئاسية الخامسة لبوتين التي تمتدّ حتى عام 2030.
في كتابه "رقعة الشطرنج"، يرى زبغنيو بريجينسكي مستشار الأمن القومي الأميركي ابان رئاسة جيمي كارتر، أنّ حرمان روسيا من أوكرانيا أمر ضروري لمنع عودة "الإمبراطورية الروسية".
روسيا بوتين تدرك ذلك، والغرب يدرك ذلك. وهذا سرّ الحرب الطاحنة التي تدور رحاها في سهوب الدونباس الآن، وسط رهانات من الجانبين على أنّ أحد الطرفين سيصرخ أولاً.
وكما أن أوكرانيا ليست وحدها، كذلك فإنّ روسيا ليست وحدها. الصين تشاركها في النظرة إلى ضرورة قيام عالم متعدّد الأقطاب. الرئيس الصيني شي جينبينغ كان أول المهنّئين لبوتين على فوزه في الانتخابات.
إنّ مزيداً من التقارب الروسي-الصيني هو المتوقّع خلال السنوات الست المقبلة لوجود بوتين في الكرملين. تنامي العلاقة الروسية-الصينية منذ اندلاع النزاع الأوكراني هو موضع قلق غربي دائم. هذه العلاقة تصعّب على الغرب مهمّة الحاق الهزيمة الإستراتيجية بروسيا.
وممّا يعقّد الموقف الغربي، هو أنّ معظم دول الجنوب رفضت الوقوف ضد روسيا، وإن كانت لم تؤيد هجومها على أوكرانيا، من الهند إلى البرازيل وجنوب إفريقيا، ودول الخليج وأميركا اللاتينية.
والسؤال المركزي الآن، كيف سيتعاطى بوتين مع الحرب؟ هل يتجه نحو التصعيد بإعلان تعبئة جزئية جديدة وشن هجوم أوسع على الجبهات الممتدّة على أكثر من ألف كيلومتر؟ خطوة كهذه قد تدفع الغرب إلى زيادة تورّطه.
ومع ذلك، فإنّ بوتين قد يتشجّع بالتشقّقات التي ظهرت في المعسكر الغربي، مع تجميد المساعدات العسكرية والاقتصادية الأميركية في الكونغرس، ومع حصول تباينات في مواقف الدول الأوروبية، بين الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون المؤيد ارسال قوات فرنسية وأطلسية إلى أوكرانيا والمستشار الألماني أولاف شولتس المعارض بشدة لمزيد من الانخراط في الحرب حتى على سبيل إرسال صواريخ بعيدة المدى إلى كييف، في حين تتصاعد في بولندا موجة الاستياء من أوكرانيا بسبب اغراقها السوق البولندية بمنتجاتها الزراعية، وصولاً إلى استطلاع للرأي أظهر أنّ 10 في المئة من الأوروبيين لا يزالون يعتقدون بإمكان انتصار أوكرانيا في الحرب.
على أنّ عاملاً أساسياً قد يقرّر مصير الحرب، وهو من سيفوز في الانتخابات الرئاسية الأميركية في تشرين الثاني المقبل: جو بايدن المؤيّد دعم أوكرانيا " إذا استلزم الأمر"، أم دونالد ترامب الداعي إلى وقف المساعدات الأميركية والبحث عن تسوية سياسية يرى نفسه قادراً على اجتراحها "في 24 ساعة"؟
وبوتين أكثر المنتظرين الآن للانتخابات الأميركية، كي يحدّد المسار الذي سيسلكه على طريق استعادة أمجاد روسيا وكتابة اسمه إلى جانب كاترين الثانية وبطرس الأكبر. وطبعاً، سيفعل بوتين كل ما في وسعه كي لا يكون نيقولا الثاني!