من باريس إلى برلين وروما ومدريد ولشبونة ووارسو وبوخارست وبروكسيل وأثينا، عواصم مهدّدة بالحصار ليس من جيوش بالمعنى التقليدي وإنّما بغضب مزارعين قادوا جراراتهم ليسدّوا بها الطرق السريعة. تحرّك هؤلاء بعدما شعروا أنّهم متروكون لقدرهم، في مهبّ التغيّر المناخي، والمنافسة الأجنبية، والقواعد الصارمة، التي فرضها الاتحاد الأوروبي في "صفقته الخضراء" التي تنصّ على خفض انبعاثات النيتروجين بحلول 2040.
حراك المزارعين الأوروبيين الذي مضى عليه أكثر من شهرين نجح في فرض تعديلات في الخطط والإجراءات الحكومية وعلى صعيد الاتحاد الأوروبي أيضاً، تلافياً لمزيد من الاحتجاجات التي تهدّد بعرقلة الحياة في العواصم والمدن الأوروبية. ولم يعد "سلاح الجرّارات" بعيداً عن مجريات الحياة السياسية في البلدان الأوروبية التي يؤرقها أخطر نزاع على أراضيها منذ الحرب العالمية الثانية، وبين تحوّلات اجتماعية تصب في مصلحة اليمين المتطرّف الذي يشهد ارتفاعاً صاروخياً ومستعد لتلقّف أية أزمة للصعود إلى السلطة حين تحين الفرصة.
في خلفية المشكلة، تقبع شكاوى كثيرة للعاملين في هذا القطاع الذي كان يتمتّع بثلث موازنة الاتحاد الأوروبي، وإذا به فجأة يجد نفسه في مواجهة مصاعب تهدّد لقمة عيشه وجعل حقوله تبور. وتبدو أسباب الاحتجاجات متشابهة إلى حدّ كبير في معظم البلدان، من انخفاض حاد في المداخيل، إلى التضخّم، إلى تمادي المنافسة الأجنبية، إلى رفع سقف المعايير وارتفاع أسعار الوقود.
من هواجس القلق التي تنتاب المزارعين، مثلاً اعتزام ألمانيا رفع ممرحل للضريبة على الديزل، أو شروط وضعتها الحكومة الهولندية لخفض انبعاثات النيتروجين.
بدأت معاناة المزارعين في أوروبا الشرقية والوسطى، مع قرار الاتحاد الأوروبي، إعفاء المنتجات الزراعية الأوكرانية من الرسوم الجمركي
ومنذ الهجوم الروسي على أوكرانيا في شباط 2022، زادت التكاليف على المزارعين وخصوصاً أسعار الطاقة والأسمدة والنقل. وفي وقت ترتفع نسبة تكاليف المعيشة، تحرّكت الحكومات وتجار التجزئة إلى خفض أسعار المواد الغذائية.
وبدأت معاناة المزارعين في أوروبا الشرقية والوسطى، مع قرار الاتحاد الأوروبي، إعفاء المنتجات الزراعية الأوكرانية من الرسوم الجمركية، كوسيلة لدعم المجهود الحربي الأوكراني في مواجهة روسيا، وبعد انسحاب موسكو العام الماضي من اتفاق تصدير الحبوب عبر البحر الأسود، الذي كانت رعته تركيا والأمم المتحدة.
أدّت هذه الخطوة إلى انخفاض مداخيل المزارعين في بولندا وبلغاريا ورومانيا ودول أوروبية أخرى. وانعكس ذلك توتراً في العلاقات البولندية-الأوكرانية. وتفكّر حكومة دونالد توسك في وارسو مثلاً بإغلاق مؤقّت للحدود أمام البضائع الواردة من أوكرانيا. بولندا كانت من أكثر الدول الأوروبية تأييداً ودعماً لكييف منذ الأيام الأولى للحرب. لذلك من المستغرب أن تسوء العلاقات بين الدولتين إلى هذا الحد، تحت وطأة المنافسة الزراعية.
ووصل الأمر بالمزارعين الغاضبين في بولندا إلى رفع لافتة كتب عليها "بوتين، أعد النظام في أوكرانيا وبروكسيل (الاتحاد الأوروبي) وفي حكومتنا" إلى جانب علم للاتحاد السوفياتي مثبت على جرار زراعي.
الانتفاضة الزراعية في إيطاليا تطالب بأجور عادلة وإلغاء الضرائب على الوقود وزيادة في أسعار الحليب وتقليل المعايير البيئية. ووجهت رئيسة الوزراء الإيطالية جورجيا ميلوني اللوم إلى الاتحاد الأوروبي، الذي، بحسب زعمها، يفرض معايير تتعارض مع المصالح الصناعية والزراعية لإيطاليا، وذلك تحت شعار التحوّل البيئي. وإيطاليا، بعد فرنسا وألمانيا، ثالث أكبر دولة زراعية في الاتحاد.
وهناك سبب أساسي للغضب في أوروبا وخصوصاً في فرنسا، بسبب الواردات الرخيصة من دول بعيدة مثل نيوزيلندا وتشيلي، ولا تخضع للمعايير التي يفرضها الاتحاد الأوروبي على مزارعيه. ويخشى المزارعون الأوربيون احتمال ابرام اتفاق تجاري بين الاتحاد الأوروبي وتكتل ميركوسور (التي تضم البرازيل والأرجنتين والأورغواي والباراغواي بشكل أساسي) في أميركا الجنوبية، وسط مخاوف من نشوء تنافس غير عادل في مواد مثل السكر والحبوب واللحوم. وأخذاً في الاعتبار هذه المخاوف، قال الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون ورئيس الوزراء الإيرلندي ليو فارادكار، إنّ الاتفاق مع ميركوسور يجب ألّا يوقع عليه بنسخته الحالية. الجدير بالذكر أّن الاتحاد الأوروبي وميركوسور يتفاوضان على اتفاق التبادل التجاري الحر منذ عشرين عاماً.
كما يؤثّر التغير المناخي بشكل متزايد على الانتاج. وهناك خزانات للمياه في جنوب اسبانيا تعمل بنسبة 4 في المئة من قدرتها، بينما أتت الحرائق على 20 في المئة من عوائد المزارعين في اليونان العام الماضي.
ويجد المزارعون عموماً أنفسهم محاصرين بين ما يصفونه ببيروقراطية بروكسيل التي يتّهمونها بعدم الاطلاع على تفاصيل عملهم، وبين طلب الناس المتزايد لمواد غذائية رخيصة فضلاً عن مراعاة العمليات الصديقة للبيئة.
وبإزاء احتدام الاحتجاجات وتوسّعها، خفّف الاتحاد الأوروبي صرامة أجزاء من "الصفقة الخضراء" لسياسات البيئة المميزة للتكتل، ممّا أدى إلى حذف هدف خفض الانبعاثات الزراعية من خريطة الطريق المناخية لعام 2040.
كما عمدت الحكومات إلى بعض الخطوات لتهدئة الغضب. وخفّفت برلين من بنود خطة لخفض الدعم الحكومي للديزل، بينما تخلّت باريس عن زيادة الضريبة على هذه المادة، وأرجأت تدابير أخرى بينها "الإيقاف المؤقّت" لخطة خفض استعمال المبيدات، ورصدت 150 مليون يورو، لتعزيز اتحادات المزارعين. وقال رئيس الوزراء الفرنسي غابريال أتال :"في كل مكان بأوروبا تبرز الأسئلة نفسها: كيف يمكننا أن ننتج أكثر، لكن أفضل؟ كيف يمكننا الاستمرار في معالجة التغير المناخي؟ كيف يمكننا تجنب المنافسة غير العادلة من بلدان أجنبية؟". ووعد بتحقيق "سيادة غذائية"، وبزيادة الرقابة على الواردات.
ولأنّ أحزاب اليمين المتطرف في أوروبا تدعم تحرّكات المزارعين، فإنّ الحكومات قد تجد نفسها مرغمة على تقديم مزيد من التنازلات لاحتواء غضبة المزارعين، التي قد تترجم فوزاً كاسحاً لليمين المتطرّف في انتخابات البرلمان الأوروبي في حزيران.
وانخرط حزب "البديل من أجل ألمانيا" اليميني المتطرّف مع المحتجين، معلناً تضامنه معهم. لكن اتحاد المزارعين الألمان حرص على النأي بنفسه عن اليمين المتطرف.
وفي هولندا، احتل حزب "المواطن-المزارع" الشعبوي الصدارة في الانتخابات المحلية التي جرت في آذار من العام الماضي، على رغم أن 2.5 في المئة فقط من القوّة العاملة في هذا البلد يعملون في الزراعة.