في اليوم العالمي للقضاء على جميع أشكال التمييز، zero discrimination day، والذي صودف في الأول من الشهر الجاري، تواجه لبنان عدّة تحديات ومعوقات تحول دون تحقيق الهدف بالوصول إلى صفر تمييز. فلبنان الذي يضمّ أكثر من 18 طائفة، وأكثر من 20 جنسية ومجموعات عرقية (أرمنية، عراقية، فلسطينية، سورية، كردية، مصرية، هندية، أثيوبية، بنغدلاشية، يابانية، صينية...) يتخبّط في مظاهر تمييز عدّة منها: طائفية، وعنصرية (تمييز مبني على العرق أو لون البشرة)، وجندرية (تمييز مبني على النوع الاجتماعي أي على أساس الجنس)، بالإضافة إلى التمييز المناطقي، والتمييز ضد أكثر الفئات ضعفاً (ذوو الإعاقة) إلخ.
ووفق استطلاع للرأي، أجرته المجموعة التجارية والاقتصادية الأميركية، انسيادر مونكي، احتلّ لبنان في العام 2015 المركز الثاني عالميًّا والأول عربيًّا بنسبة العنصريّة. إذ كشف %36.3 من المستطلعين أنّهم لا يرغبون في مجاورة أشخاص من أعراق أخرى، فيما قال 64.3% إنّهم شهدوا حوادث عنصرية.
وإن كان التمييز الطائفي في لبنان، نتيجة حقبة سياسية وأنظمة وأحكام لم تراعِ التنوّع الطائفي اللبناني، (القائم مقائمية، المتصرّفية) انفجرت في الحرب الأهلية، ورسخّت الطائفية السياسية مع اتفاق الطائف والفكر المناطقي بين المواطنين، وإن كان الكره والحقد الموجهان من اللبنانيين إلى السوريين والفلسطينيين يُعللان بمزاعم تداعيات الحرب الأهلية والحكم السوري للبنان، يأتي التمييز العنصري (ضدّ أصحاب البشرة الملوّنة) ليؤكّد أنّنا شعب عنصري، بعيداً عن كلّ التبريريات والمزاعم. إذ هناك فكر مخيف متغلغل في مجتمعاتنا اعتاد تحقير الآخر، وتسخيره لخدمته، والتنمّر عليه، واستغباءه، لمجرّد أنّه من ثقافة أخرى، أو من جنسيّة مغايرة، أو من عرق مختلف.
التنمّر والنظرة الفوقية
وفي هذا الإطار، تَروي ستيفاني شيتيار لـ "الصفا نيوز" معاناتها مع التمييز العنصري في لبنان، "أنا نصف هندية/نصف سيرلانكية، ولدت في لبنان، وأنهيت إجازتي في العلوم الاجتماعية وماستر في التنمية الاقتصادية والاجتماعية من الجامعة اللبنانية، أتقن 7 لغات، وناشطة في العمل الاجتماعي في لبنان، وأجد صعوبة في العثور على فرص عمل، لأنني أجنبية في الدرجة الأولى وبسبب لون بشرتي بالدرجة الثانية. ومنذ طفولتي أنعت "بالسيرلنكية"، على الرغم من أنّ أمي سيرلنكية ووالدي هندي، وأحمل الباسبور الهندي، إلا أنّ زملائي في الصف اعتادوا التنمّر عليّ بهذا الوصف، وهذه الكلمة تستخدم في لبنان للدلالة على عاملات المنازل، فيما هي في الأساس جنسية كباقي الجنسيات، وهو ما سبّب لي عقدة نفسية حتى الثالثة عشرة من العمر. إلّا أنّني قرّرت تغيير هذه البصمة، وكسر الصورة النمطية التي يكوّنها المجتمع عن أصحاب البشرة السوداء. أعتبر نفسي لبنانية، إذ ولدت هذا البلد وتعلّقت به".
وعن تجربتها مع التنمّر، تقول "علّمتني هذه التجربة أن أكون قويّة الشخصية، ولا أخاف، وكلّ مرّة كنت أتعرّض للتنمّر من قبل شخص ما كنت أجلس معه وأحاول أن أصل إلى حلّ. إلّا أنّ هذه التجربة جعلتني أكره أهلي في سنّ الطفولة، وكنت أعتبر أن ما يحصل معي هو بسببهم، إلّا أنّ دعمهم، خاصةً دعم والدي، خلق نوعاً من الأمان وتحسّنت علاقتي مع أهلي، ومع مجتمعي، على الرّغم من أنّني مررت بفترات صعبة جدّاً أوصلتني إلى الكآبة".
وفي فترة المراهقة، عانت ستيفاني من النظرة الفوقية التي كان يراها عبرها المجتمع، ليس بسبب لون بشرتها فقط، بل بسبب كونها امرأة أيضاً، "وكنت أتعرّض للكثير من "التلطيشات" المسيئة على الطرقات، حيث أنّ القسم الأكبر، يا للأسف، يعتقد أن الاجنبيات يأتين إلى لبنان لتحقيق المال السريع. ومن أصعب الفترات التي عشتها، كانت يوم ترحيلي وعائلتي من لبنان في العام 2016. فانتقلنا إلى الهند ووجدت صعوبة بالتأقلم مع البيئة هناك، وبدأت أتواصل مع عدد من الجمعيات الحقوقية، والحقوقيين، الذين ساعدوني على العودة إلى لبنان".
وستيفاني اليوم قائدة في المجموعات التي تدافع عن حقوق أصحاب البشرة الملونة، ورسالتها لمن يمرون بنفس تجربتها "هي ليست سوى مرحلة من حياتكم، ستعلّمكم درساً وتحضّركم لما هو أعظم بكثير، ولا تفقدوا الايمان بأنفسكم بل ثابروا ولا تستسلموا، على الرغم من الصعوبات التي تواجهكم...".
وعن رسالتها إلى البنانيين العنصريين تقول "فلنتقبّل بعضنا بعضاً من منظار الإنسانية، فجميعنا بشر ولدينا الحق بالتكافؤ في الفرص، والمطلوب أن نشعر بعضنا ببعض، ونضع أنفسنا مكان الشخص الآخر لنفهم معاناته".
لبنان واتفاقات حقوق الانسان
وهنا تجدر الإشارة إلى أنّ لبنان وافق على الاتفاقية الدولية للقضاء على جميع أشكال التمييز العنصري التي أقرّتها لجنة القضاء على التمييز العنصري في الأمم المتحدة.كما أنّه ساهم في صوغ شرعة حقوق الإنسان، واعتمدته الجمعية العامة في باريس في 10 كانون الأول 1948 بموجب القرار 217 ألف بوصفه المعيار المشترك الذي ينبغي أن تستهدفه جميع الشعوب والأمم. ولعلّ أبرز النقاط التي تناولتها شرعة حقوق لإنسان حول التمييز، جاءت في المواد الست الأولى منها، وهي:
المادة 1: يولد جميع الناس أحراراً ومتساوين في الكرامة والحقوق. وهم قد وهبوا العقل والوجدان وعليهم أن يعاملوا بعضهم بعضاً بروح الإخاء.
المادة 2: لكلِّ إنسان حقُّ التمتُّع بجميع الحقوق والحرِّيات المذكورة في هذا الإعلان، دونما تمييز من أيِّ نوع، ولا سيما التمييز بسبب العنصر، أو اللون، أو الجنس، أو اللغة، أو الدِّين، أو الرأي سياسيًّا وغير سياسي، أو الأصل الوطني أو الاجتماعي، أو الثروة، أو المولد، أو أيِّ وضع آخر. وفضلاً عن ذلك لا يجوز التمييزُ على أساس الوضع السياسي أو القانوني أو الدولي للبلد أو الإقليم الذي ينتمي إليه الشخص، سواء أكان مستقلاًّ أو موضوعًا تحت الوصاية أو غير متمتِّع بالحكم الذاتي أم خاضعًا لأيِّ قيد آخر على سيادته.
المادة 3: لكلِّ فرد الحقُّ في الحياة والحرِّية وفي الأمان على شخصه.
المادة 4: لا يجوز استرقاقُ أحد أو استعبادُه، ويُحظر الرق والاتجار بالرقيق بجميع صورهما.
المادة 5: لا يجوز إخضاعُ أحد للتعذيب ولا للمعاملة أو العقوبة القاسية أو اللاإنسانية أو الحاطَّة بالكرامة.
المادة 6: لكلِّ إنسان، في كلِّ مكان، الحقُّ بأن يُعترَف له بالشخصية القانونية.
لبنان وافق على الاتفاقية الدولية للقضاء على جميع أشكال التمييز العنصري
ما الأسباب التي توقعنا في فخّ التمييز؟
وللغوص في الأسباب التي تدفع الإنسان لأن يقع في فخّ التمييز العنصري أو الطائفي أو أي نوع آخر، تواصل "الصفا نيوز" مع المتخصصة في علم النفس، د. نيقولا هاني، التي رأت أنّ "هناك عدّة أسباب تدفع بالشخص لأن يكون عنصرياً أو طائفياً، وأوّلها الجهل، وغياب الوعي والأنانية، واختلاف اللغات والعادات والثقافات والمعتقدات والأعراق، والفروق الاجتماعية والمادية. والعنصرية ظاهرة متمادية في الفكر الاجتماعي اللبناني، وهو ما يجعل شريحة واسعة من اللبنانيين تعتقد أنّها أعلى شأناً من غيرها، خصوصاً عاملات المنازل، في ظلّ غياب ثقافة احترام الانسان وحقوقه، واعتبار جميع الناس متساوين دون تمييز بينهم على أساس اللون أو المعتقد أو الجنسية".
وعن سبب الكره المتزايد من اللبنانيين اتجاه أتباع الجنسية السورية أو الفلسطينية تجيب هاني "للأسف نشعر أن الجوّ العنصري إلى تزايد في الفترة الأخيرة في لبنان، مع شعور نسبة كبيرة من اللبنانيين بأنّ أعداد النازحين السوريين تزداد، ما يشكّل خطراً على وجودهم وتهديداً لهويتهم، فيشعرون بالغضب والقلق وبرفض الواقع، وتنعكس هذه المشاعر تصرّفات عنصرية أو خطاب كراهية. إلاّ أنّ ذلك لا يبرر السلوك العدائي اتجاه الآخر، فالعنصرية تفكّك المجتمع وتزيد من الصراعات الداخلية، لذلك من الضروري رفع الوعي المجتمعي، وعدم الأخذ بالتفرقة".
أما التمييز الحاصل بحق النساء، فيعود، بحسب هاني، إلى بعض النصوص والتعاليم الدينية والممارسات الثقافية والتقاليد، والاختلافات في التعليم، إذ غالباً ما تكون النساء أقلّ تعليماً من الرجال. كما أن الاستبعاد على أساس الجنس يمنع المرأة من التمتع بحقوقها، والاعتراف بها ككائن مستقل بصرف النظر عن وضعها العائلي، وهو ما يتناقض مع شرعة حقوق الانسان التي تدعو إلى المساواة بين الرجل والمرأة في جميع الميادين".
لا شكّ في أنّ لبنان كغيره من دول العالم لا يزال يحتاج إلى الكثير من العمل للقضاء على الفكر العنصري المتغلغل في مجتمعه. ففي معظم بلدان العالم تقدّم الدولة بعد كل أزمة (حرب، انفجار، زلزال…) خدمات دعم نفسي لشعبها بغية أن تساعده على تخطّي الآثار النفسية للتجربة، فما حال شعب عاش عشرات الحروب، والأزمات، التي ما زالت ترافقه حتّى اليوم، (الحرب الأهلية، حرب 2006، 7 أيّار، سلسلة الاغتيالات، انفجار مرفأ بيروت، الحرب في الجنوب، الأزمة الاقتصادية)، ولم يتلقّ العلاج المطلوب!