في العاشر من شباط الجاري، هدّد الرئيس الأميركي السابق دونالد ترامب أمام حشد صاخب من مؤيديه في مدينة كونوي بولاية ساوث كارولاينا، بإطلاق يد روسيا ضد دول أعضاء في حلف شمال الأطلسي "الناتو" التي لا تفي بالتزاماتها الدفاعية، ولوّح مجدداً بسحب أميركا من الحلف، مثيراً بذلك صدمة لا تزال تتردّد أصداؤها على ضفتّي الأطلسي.
وهيمنت مواقف ترامب، الذي يشقّ طريقه بسهولة نحو نيل ترشيح الحزب الجمهوري لانتخابات 2024، على مؤتمر ميونيخ للأمن في عطلة نهاية الأسبوع الماضي. وبدا القلق مضاعفاً مع ورود أنباء من الجبهة الأوكرانية عن سقوط مدينة أفدييفكا بمنطقة دونيتسك في أيدي الجيش الروسي، كانعكاس أوّلي لتجميد المساعدات العسكرية الأميركية بسبب النفوذ القوي الذي يمارسه ترامب على الجمهوريين في الكونغرس، من أجل عدم الموافقة على مساعدة لكييف طلبها الرئيس جو بايدن منذ الخريف الماضي والبالغة 61 مليار دولار، وربط ذلك بإجراءات مشدّدة لوقف تدفّق المهاجرين من المكسيك على الحدود الجنوبية للولايات المتحدة.
لم يعد نمو الاتجاه الانعزالي داخل الولايات المتحدة مسألة عابرة. إنّها تلقي بثقلها الآن على أوروبا بكاملها وليس على أوكرانيا فقط. دول مثل ألمانيا بدأت التفكير في توفير مظلّة نووية بديلة من المظلّة الأميركية، إذا نفّذ ترامب وعيده بالانسحاب من الناتو الذي كان حجر الزاوية في السياسة الأمنية على ضفّتي الأطلسي في مواجهة روسيا منذ عام 1949. وقالت كاترينا بارلي، العضو في الحزب الديموقراطي الاشتراكي الذي يتزعّمه المستشار أولاف شولتس، إنّه مع احتمال إعادة انتخاب ترامب رئيساً للولايات المتحدة، فإنّ درعاً نووية أوروبية "قد تطرح على الطاولة".
العودة المحتملة لترامب ستدفع بالدول الأوروبية إلى إعادة تقويم شاملة لإستراتيجياتها الدفاعية. ومبعث الخوف يتجاوز ترامب إلى التفكير الذي يطغى على شريحة واسعة من الجمهور الأميركي الذي ينشده الرئيس الأميركي السابق. وترى صحيفة "النيويورك تايمز" أنّ "التوافق القديم الذي صمد في السنوات الأولى عقب الحرب الباردة، قد وهن تحت ضغط العولمة، وحربي العراق وأفغانستان، والكساد الكبير عامي 2008 و2009، والهجوم الذي لا هوادة فيه الذي شنّه ترامب على المؤسسات والاتفاقات الدولية... هذا يعيدنا بالذاكرة إلى قرن مضى عندما كان كثيرون من الأميركيين يريدون فقط من العالم أن يتركهم وشأنهم".
ويصف الباحث في صراع القوى العظمى في جامعة تافتس مايكل بيكلي الجدل الدائر حالياً بأنّه "جزء من اتجاه طويل المدى".
يفرض هذا الاتجاه على أوروبا السعي على محورين من الآن فصاعداً. محور ملحّ يتمثّل في ملء الفراغ الأميركي المهدد بالاتساع في أوكرانيا، وذلك من خلال تحريك عجلة الانتاج الحربي وسدّ الحاجات الآنية للجبهة. وأعرب وزير الدفاع الألماني بوريس بيستوريوس عن تفاؤله في إمكان سد الفجوة الأميركية. وأعلن الرئيس التشيكي بيتر بافل أنّ بلاده عثرت على 800 ألف قذيفة من الممكن أن تشحنها إلى أوكرانيا في غضون أسابيع. ويتعيّن على أوروبا أن تنتج ما معدله ما بين مليون ومليوني قذيفة حتّى آخر العالم، في وقت تقدّر شركة "راينمينتال" الأوروبية لصناعة الأسلحة، أنّ معدل استهلاك أوكرانيا في العام يصل إلى 1.5 مليون قذيفة.
وعلى المحور الثاني، ستكون أوروبا أمام حقيقة بناء دفاعات ذاتية مستقلّة عن الولايات المتحدة. وكان الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون في السنوات الأخيرة وقبل نشوب حرب أوكرانيا وتنشيط إدارة الرئيس الأميركي جو بايدن لحلف شمال الأطلسي، قد دعا إلى "استقلالية" عسكرية أوروبية لمواجهات التحديات الأمنية في العالم.
في عام 2014، وعلى أثر ضمّ روسيا لشبه جزيرة القرم الأوكرانية، قرّر حلف شمال الأطلسي أن تخصّص الدول الأعضاء نسبة 2 في المئة من إجمالي ناتجها القومي للنفقات الدفاعية. لكن معظم الدول بقيت بعيدة عن الوفاء بهذا الالتزام. وهذا ما اتّخذه ترامب في ولايته بين 2017 و2021، سبباً للهجوم على الناتو، واعتباره منظمة قد عفا عليها الزمن.
لن تكون مسألة سحب الولايات المتحدة من الناتو بهذه السهولة بالنسبة إلى ترامب حتّى لو قرّر ذلك.
يروي جون بولتون مستشار الأمن القومي السابق لترامب، والذي انقلب عليه لاحقاً، أنّه خلال قمّة للحلف في بروكسيل عام 2018، توسّل بولتون ووزير الخارجية الأميركي السابق مايك بومبيو، إلى الرئيس السابق، أن لا يعلن خلال كلمته المقرّرة أمام القمّة الانسحاب من الحلف. ويجزم بولتون أنّ مسألة مغادرة أميركا للحلف لا تزال تداعب مخيلة الرئيس السابق، وأنّه قد يقدم على قرار كهذا في حال عودته إلى البيت الأبيض.
ومع ذلك، يرى مسؤولون سابقون عملوا في إدارة ترامب، أنّ الرجل يلوّح بالانسحاب من الحلف كتكتيك من أجل دفع الدول الأعضاء إلى الوفاء بالتزاماتها الدفاعية وتخفيف العبء عن الولايات المتحدة، ويؤكّدون أنّ الرئيس الأميركي السابق لن يقدم على خطوة من هذا النوع، ويشيرون إلى أنّه ليس وحده من بين الرؤساء الأميركيين الذين انتقدوا عدم وفاء كثير من الدول الأعضاء بالتزاماتها المالية، ويذكّرون بأنّ الرئيس السابق باراك أوباما أطلق على هؤلاء وصف "الراكبون بالمجان".
وبعد الحرب الروسية-الأوكرانية، اضطرت دول أعضاء إلى رفع مساهماتها الدفاعية إلى النسبة المطلوبة، وخصوصاً الدول المحاذية لروسيا، وبينها جمهوريات البلطيق، وكذلك فعلت بولندا التي رفعت نسبة نفقاتها الدفاعية إلى 3 في المئة من إجمالي ناتجها القومي. وهناك 18 دولة أطلسية من أصل 31 تفي في الوقت الحاضر بنسبة 2 في المئة في مقدمها بريطانيا، في حين لا تزال فرنسا عند نسبة 1.9 في المئة وألمانيا 1.65 في المئة.
ولن تكون مسألة سحب الولايات المتحدة من الناتو بهذه السهولة بالنسبة إلى ترامب حتّى لو قرّر ذلك. فقد أقرّ الكونغرس العام الماضي تشريعاً ينصّ على أنّ سحب أميركا من المعاهدة الأطلسية، يتطلّب مصادقة ثلثي الأعضاء.
وعلى رغم ذلك، أيقظت تهديدات ترامب الأوروبيين على حقيقة أنّ المظلّة الأمنية الأميركية لن تبقى هي الدرع الحامية للقارّة، وأنّهم قد يستيقظون يوماً على واقع إستراتيجي جديد.