عاد ملفّ المباني المتصدّعة في لبنان إلى الواجهة من جديد, بعد سلسلة أخبار متتالية عن سقوط مبان في عدّة مناطق لبنانية. وفي آخر هذا المسلسل الطويل سقوط مبنى مؤلّف من 5 طوابق في منطقة صحراء الشويفات جنوب العاصمة بيروت، وتحديداً في حي زعيتر، الذي يضمّ معظم أهالي البقاع والجنوب اللبناني الذين هربوا أثناء الحرب إلى هذه المنطقة. وهناك تخوّف من سقوط مبانٍ أخرى بسبب البناء العشوائي في هذه المنطقة حيث مئات المباني التي شيّدت أثناء الحرب من دون رخص وأذونات رسمية وبطريقة عشوائية في حين أن معظم المباني متلاصقة وأيّ ضرر قد يمسّ أكثر من مبنى في هذا الحي.
الترميم "المضروب" يطيح مبنى المنصورية
وكان قد سبق مبنى الشويفات انهيار مبنى في حي بدران، في منطقة المنصورية، التابعة لمحافظة جبل لبنان، مؤلّف من 5 طوابق، بعد أن تبيّن أنّ في المبنى عمودين متصدّعين ونتيجة السيول انهار. وكشفت التحقيقات أنّ المبنى تصدّع في انفجار المرفأ وقد رُمم على الفور عام 2020، لكن أعمال الترميم لم تتمّ بالصورة الصحيحة. ونتج من انهيار المبنى سقوط ثلاث ضحايا، ونجاة أربعة أشخاص.
السيول تجرف مبنى في زقاق البلاط
ونتيجة السيول الجارفة أيضاً، انهار مبنى مهجور في منطقة زقاق البلاط في بيروت إثر هطول الأمطار الغزيرة. وقضى الشاب السوري إبراهيم عبد الله (17 عاماً) في انهيار مبنى سكني قديم في محلّة المقاصد في صيدا القديمة مقابل حديقة الإمارات، ونجا باقي أفراد عائلته من الموت بأعجوبة وكانوا في فناء المنزل، رغم انهيار أربعة أسقف أخرى تدريجياً بعضها فوق بعض.
الإهمال دمّر المباني الأثرية
كما انهار العام الماضي مبنى أثري متصدّع مكوّن من طبقتين في محلّة الزاهرية في مدينة طرابلس، من دون أن تُسجّل أيّة إصابات في الأرواح أو أضرار مادية، كون المبنى كان مهجوراً وخالياً من السكّان، بعدما كانت بلدية المدينة قد أخطرت شاغليه، بعد زلزال 6 شباط 2023، بضرورة إخلائه نظراً لظهور تشقّقات في جدرانه وسقوفه، وأحاطته بشريط لمنع المواطنين من الاقتراب منه أو ركن سياراتهم في جواره.
وفي طرابلس أيضاً، انهار مبنى من ثلاث طبقات في منطقة ضهر المغر، مما أدى إلى سقوط عدد من الجرحى.
تحذير من تداعيات زلزال تركيا
في غمرة أحداث انهيار المباني المتتالية، كانت قد حذّرت رئيسة الهيئة اللبنانية للعقارات المحامية أنديرا الزهيري من "تداعيات الهزّة الأرضية التي ضربت لبنان نتيجة زلزال تركيا، على الأبنية السكنيّة"، وقالت إنّ "أعداد الأبنية الآيلة للسقوط أكثر من 16200 في لبنان من بينها أكثر من 10460 مبنى في محافظة بيروت وحدها من دون احتساب منطقة المرفأ ومحيطها المتضرر، وتليها منطقة الشمال وطرابلس بـ 4000 مبنى، لتتوزّع الأرقام المتبقّية بين الجنوب وجبل لبنان والبقاع".
وعليه، تُطرح أسئلة عديدة بهذا الإطار، أهمّها الأسباب الكامنة وراء انهيار عدد من الأبنية في لبنان، وما هي أكثر المشاريع أماناً؟ وكيف نتحقّق من متانة مبنى معين؟ وكم مرّة يجب صيانة الأبنية؟ من يتحمّل المسؤولية القانونية عن انهيار المبنى؟
ظروف طبيعية وبشرية
في البحث عن الأجوبة، تواصل "الصفا نيوز" مع الدكتور جورج نور، المتخصّص باقتصاديات العقارات، الذي شدّد على أنّ "هناك عدّة أسباب وراء انهيار عدد من المباني في لبنان، السبب الأوّل يتعلّق بظروف طبيعية كالزلازل وانزلاق الأرض والتربة، أمّا السبب الثاني فيتعلّق بعدم توفّر الصيانة خصوصاً للأبنية القديمة، والسبب الثالث يعود إلى عدم احترام المطوّرين العقاريين قوانين البناء، فضلاً عن عدم تأمين الإشراف من المراجع الرسمية على أعمال البناء. كما أنّ دور البلديات والنقابات أصبح محصوراً بدراسة الخرائط فقط ووضع الرسوم وليس لديها أيّ دور رقابي على الأعمال المنفّذة".
الطمع بمكسب أكبر
ورأى نور أنّ "المشاريع الجديدة من حيث المبدأ آمنة، ولكنّها ليست قاعدة يمكن تعميمها، إذ هناك مشاريع بناء قديمة شُيّدت وفق الأصول، وكلنا يعلم أنّ منازل الجبل التي تمّ تشييدها بالحجر متينة جداً، وتالياً موضوع المتانة غير مرتبط بالفترة الزمنية التي شُيّد المبنى فيها بل بالطريقة التي اعتمدها المطوّر أو صاحب العقار لبناء المنزل. ولا شكّ في أنّ الطمع بتحقيق أرباح أكبر هو من الأسباب الرئيسية الكامنة وراء عدم متانة المباني إذ يلجأ المطوّرون إلى استخدام مواد بناء رخيصة ولا يدعّمون البناء كما يجب، ويدخلون في المشاريع دون تخطيط أو درس. في حين أنّ التحقّق من متانة البناء تقوم به جهات متخصصة من مكاتب لمراقبة التقنية وإشراف المهندس المسؤول على هذه الأعمال. وخارج هذا الإطار ما من جهات مختصّة لمراقبة متانة البناء، وقد يكون هناك خبراء مجازون باختصاص البناء، وهؤلاء يمكن اللجوء إليهم، لأنّهم مخوّلون الكشف على أيّ نوع بناء وتسليم تقريرهم بشأن متانة المباني الموجودة".
الصيانة الدورية والكشف
وشدّد نور على أنّ "البناء بحاجة إلى صيانة دورية وكشف دوري على متانته والتثبت من أنّ التربة ثابتة ولا وجود لعناصر قد تزعزع قاعدته، والتحقّق من عدم وجود مسارب مياه أو أنهر بالقرب من المبنى، وإذا استُهلك البناء كله فمن الطبيعي هدمه وبناء مبنى جديد مطابق للشروط والمواصفات، ولكن الجدوى الاقتصادية هي السبب الرئيسي لعدم إقدام أصحاب هذه المباني على هذه الخطوة".
ولمسألة الصيانة أوجه عديدة، بحسب نور، تحول دون اعتمادها من قبل أصحاب المباني، وأهمّها "عدم وجود قانون يُلزم صاحب المبنى بصيانة دورية، إلّا إذا كان موقع المبنى في وسط بيروت حيث الصيانة عملية إلزامية للمباني من الخارج مرة كلّ 5 سنوات. بالإضافة إلى الأسباب المادية، فإنّ البناء إذا كانت تعود ملكيته إلى مجموعة من المالكين فسيُهمل، في حين نفتقد في لبنان ثقافة صيانة المباني،إذ نصرف الكثير من المال على تجهيز الشقق من الداخل ونبخل على صيانتها من الخارج".
وعن دور الدولة، لفت إلى أنّ "ما تقوم به الأخيرة هو عملية حسابية فقط تعتمد على الجباية والصرف بعدما استقالت من واجباتها الأخرى، ومنها وضع خطط الإسكان والنقل وتطوير المدن وتأمين الطاقة الكهربائية والمياه وأدنى شروط العيش الكريم للمواطنين. وللدولة العديد من الأدوار في قطاع الإسكان إلّا أنّ ذلك يتطلّب قراراً جدّياً ذا صلة وضع سياسات مستقبلية وتنفيذها".
مسؤولية مالك المبنى
على مقلب آخر، وبسؤال "الصفا نيوز" المحامي روجيه كرم حول المسؤولية القانونية، أجاب أنّ "المسؤولية القانونية تقع بالأساس وفق أحكام المادة 133 من قانون الموجبات والعقود، على عاتق مالك البناء، الذي هو مسؤول عن الضرر الناشئ عن هبوط البناء أو تهدّم جانب منه حين يكون سبب هذا الحادث نقصاً في صيانة البناء أو عيباً في بنيانه أو قديماً. أماّ إذا كانت صيانة البنيان من واجب شخص غير المالك فتبقى التبعة ملقاة على كاهل المالك، وإنّما يحقّ له أن يُدخل الشخص في دعوى التبعة. وجميع هذه القواعد يجب تطبيقها وإن كان المالك والمتضرّر مرتبطين بموجب سابق، ما لم يكن ثمّة نص قانوني على العكس".
"كما هنالك موجب على المالكين بصيانة المباني ضماناً لمتانتها وفقاً للمادة 18 من قانون البناء التي تفرض عليهم موجب تصوين عقاراتهم وترميم مبانيهم وتدعيمها وتقويتها وصيانتها وتأمين الاتزان والمتانة فيها حفاظاً على سلامة الشاغلين والجوار. وعندما يظهر خطر انهيار في البناء، فإنّ المالك مجبور على أن يجري التدعيمات اللازمة دون إبطاء على نفقته ومسؤوليّته، وعلى أن يعلم البلدية أو المحافظ أو القائمقام عندما لا توجد بلدية، فوراً بذلك وهي بدورها تعلّم الإدارات الفنّية المختصّة بالأمر"، بحسب كرم.
من ناحية أخرى، قال كرم "ثمّة مسؤوليّة وفق المادة 668 موجبات وعقود على المهندس أو المقاول انطلاقاً من موجب الضمان بحيث يكونون مسؤولين في مدّة السنوات الخمس التي تلي اتمام البناء أو الأعمال التي قاموا بها إذا تهدّم ذلك كلّه أو بعضه، أو تداعى من جرّاء نقص في اللوازم أو عيب في البناء أو في الأرض. وإذا كان مهندس المبنى لم يجر الأعمال، فلا يكون مسؤولاً إلاّ عن العيب الذي يظهر في الرسم الهندسي الذي وضعه".
ماذا عن الإيجارات القديمة؟
أمّا في ما يتعلق بالإيجارات القديمة الخاضعة للتمديد القانوني ولقوانين الإيجارات الاستثنائية، قال كرم "ما لم يكن ثمّة اتفاق يحمِّل المستأجر جميع النفقات المشتركة، يتحمّل المالك وفق المادة 46 من قانون الإيجارات التعديلي الصادر عام 2017 نسبة 20% من نفقات الخدمات المشتركة والصيانة بشرط أن لا تتجاوز مساهمته 5% من مجموع بدلات إيجار الأمكنة التي تستفيد من هذه الخدمات، ويوزّع الباقي على الوحدات التي يتألّف منها المبنى سواءٌ كانت شاغرة أو مشغولة من المالك أو سواه، على أن تؤخذ في الاعتبار مساحة كلّ مأجور عند توزيع حصص المساهمة بين الشاغلين. وفي هذه الحالة تبقى المسؤولية على المالك، إلّا أنّه يمكنه أن يعود إلى المستأجر أو الشاغل أو يدخله في دعوى المسؤولية".
موجبات الإدارات الرسمية
وبالانتقال إلى الواجبات الملقاة على عاتق الإدارات الرسمية، ذكر كرم أنّه "أناطت المادة 74 من قانون البلديات برئيس السلطة التنفيذية في البلدية (محافظ مدينة بيروت – رؤساء البلديات في المدن والبلدات الأخرى – المحافظ والقائمقام حيث لا توجد بلدية) صلاحيّة هدم المباني المتداعية وإصلاحها على نفقة أصحابها وفقاً لأحكام قانون البناء، كما أنّ المادة 18 من قانون البناء أعطت البلديات صلاحيات واضحة تتعلق بالسهر على ضمان متانة المباني حيث يحقّ للبلدية أن تفرض على المالكين تصوين عقاراتهم لجهة الطريق وترميم مبانيهم، وإذا تمنّعوا عن ذلك يحقّ للبلدية بعد إنذارهم أن تقوم بالعمل المذكور على نفقتهم. وعندما يكون مبنى أو جدران أو خلافه، ينذر بالانهيار ويشكّل بقاؤه خطراً ما ولا يبادر المالك الى القيام بواجباته، إمّا لأنّه لا يستطيع إجراء أعمال التقوية اللازمة، أو لأنّه يمتنع عن ذلك، يقتضي حينذاك هدمه، ويمكن البلدية المعنية إخلاء السكان من المبنى".