بزيارته إحياءً لذكرى والده الرئيس الشهيد رفيق الحريري، خرج رئيس الحكومة الأسبق سعد الحريري عن اعتكافه السياسي من خلال جدول لقاءاته الشعبية والسياسية والروحية. أيّام من التحضير سبقت وصوله شارك فيها مسؤولون من تيار المستقبل ونواب يدورون في فلكه ومقرّبون ومؤيّدون. كان المطلوب تأمين حشد شعبي يؤكّد حضوره وزعامته في الوسط السنّي، لتكون المشهدية رسالة إلى دول القرار، ولا سيما المملكة العربية السعودية التي لا تزال تقاطعه الود وتوصد أبواب الحريرية السياسية بالشمع الأحمر، فلم يعد الحريري الابن مرغوباً فيه لممارسة أي دور سياسي على السّاحة السنّية.
كلّ ما شهده يوم الرابع عشر من شباط كانت له دلالاته. التجمّع أمام الضريح ووصول ابن الشهيد في الواحدة إلّا خمس دقائق فيتشارك والمحتشدين في الوقوف لحظة صمت على روحه. حدّدت له المسافة الأمنية لمصافحتهم عن قرب، تجمهروا حوله يهتفون، وتحت زخّات المطر التي فضحت مقدار التعب والحزن على محيّاه تلا عليهم رسالة ثلاثية الأبعاد "انتو نبض البلد، حافظوا على البلد، وكلّ شي بوقته حلو". استكملها بقوله للموالين في بيت الوسط "قولوا للكلّ ان رجعنا (رجعتم) للساحة وبلانا ما في بالبلد". وفي ذلك إشارة إلى أنّ أيّة تسوية من دونه وتيّاره لن تكون، وأنّ تيّاره هو الأساس في المعادلة السياسية.لم يصارحهم بسبب اعتكافه بل وعدهم بالعودة لأنّ "كلّ شي بوقتو حلو". وليس معلوماً إذا ما كان هو الذي يحدّد الموعد لعودته أم هو مرهون بقرار خارجي لم يصدر بعد، وهذا هو المرجح.
بدأت الحكاية بلقاء جمع مستشار الحريري للشؤون الروسية جورج شعبان ونائب وزير الخارجية الروسي ميخائيل بوغدانوف "بحث في رؤية الحريري لتسوية الوضع السياسي في لبنان". وقد أعلن عن زيارة قريبة للحريري الى روسيا. ليتبيّن لاحقاً أنّ الحريري حضر إلى لبنان بتدخّل مباشر من الرئيس الروسي مع ولي العهد السعودي إحياء لذكرى والده، ولتكون الزيارة اختباراً لمدى حضوره في الشارعيْن السنّي واللبناني، وأنّ روسيا ترغب في عودته إلى المعادلة السياسية التي تدعم سليمان فرنجية لرئاسة الجمهورية، وكان هذا الأخير قد حلّ ضيفاً إلى مأدبة عشاء أقامها الحريري على شرفه.
على خلاف العام الماضي، كان برنامج زيارة الحريري حافلاً. حتّى مواقفه كان عمقها سياسياً إذ وزّع رسائله بين الدّاخل والخارج وبدا أقرب إلى فتح صفحة جديدة في ضوء المستجدّات. وللمرّة الأولى تحدّث عن حرب غزّة، ولمّح إلى أنّ المنطقة مقبلة على مرحلة جديدة "تُصفّر فيها الخلافات". كلّ ما قاله وما أدلى به كان يشي بأنّ الرجل يبحث عن دور له وينتظر عودته متى نضجت التسوية في المنطقة بعد نهاية حرب غزّة. وهو قالها للحشود في بيت الوسط "قولوا للكلّ "نحن رجعنا" قبل أن يستدرك "رجعتو".
تعدّدت القراءات للزيارة الحريرية بأبعادها، منهم من اعتبرها محاولة بائسة، ومخيّبة للآمال، وآخرون اعتبروها مقدّمة للعودة النهائية.
على حدّ قول مراقبين، كان يمكن زيارة سعد الحريري أن تمرّ كمناسبة وجدانية، ولكنّ الحملة الاستباقية التي أُعدّ لها تحت عنوان "كونوا كتار حتّى يبقى" أعطت انطباعاً بأنّ الرجل عائد إلى الحياة السياسية، ولا تقتصر عودته على إحياء ذكرى والده فقط. التمهيد الاستباقي كان هدفه تأمين المزيد من الحشد. لاقت عودته ترحيباً من نوّاب وسياسيين كأنّه الشريك الضائع. تجلّى ذلك على لسان حركة أمل وسياسيين آخرين. الحشد كان مخيّباً للآمال وسيترك المزيد من الإحباط لدى جمهوره لأنّ الرّجل سيعاود الرحيل، وهو أصلاً لم يحمل مشروعاً للعودة بل تحدّث عن نبض الناس.
ويتابع هؤلاء "الحريري سيعود إلى إجازته المفتوحة، فلا احتمال عودة إلى السياسة في الوقت الحالي. في الذهن إنّه هرب من الأزمة وأُخرج من المعادلة، ولن يستطيع في زيارته السريعة تبديد تلك الصورة لرجل فقد موقعه، وإن كان يحظى بتعاطف. رمزية استقباله لفرنجية جعلت منه طرفاً".
واعتبر هؤلاء أنّ الزيارة "ستشرّع الأبواب أمام رئيس الحكومة الحالي نجيب ميقاتي للتحكّم بمفاصل الطائفة السنّية، خصوصاً أنّه حظي بتأييد مزدوج، فقد أيّده مفتي الجمهورية، وجاء لزيارته الحريري في السراي ليضفي عليه شرعيته السنّية، وليس بعيداً أن يكون ميقاتي رأس الحربة في المواجهة مع المسيحيين نظراً إلى ما تقوم به حكومته وما تتخذه من قرارات مخالفة للدستور في ظلّ غياب رئيس للجمهورية".
ولكنْ لمصادر المقرّبين من الحريري رأيٌ آخر مختلف "بالنسبة إلى الحشد فهو يتجاوز أضعاف الحشد الذي شارك العام الماضي". واضح أنّ "المشهدية كانت رسالة أساسية أرادها جمهور المستقبل تمهيداً لعودته إلى العمل السياسي، فردّ عليهم بجملته المقتضبة "هنا نبض البلد ومن دونكم ما في بلد ولكن كل شيء بوقته حلو". ما يعني أنّ عدّة العودة باتت متوفّرة، ويبقى عليه أن يكون جاهزاً لها متى كان الوضع في لبنان جاهزاً للحلّ، لأنّه يرفض العودة ما دامت الدوامة ذاتها هي المسيطرة.
بجدول استقبالات حافل يمضي الحريري أيامه القليلة في بيروت، وفد كبير من القوات اللبنانية أراد أن تكون زيارته دلالة على فتح صفحة جديدة بعد سنوات من البرودة التي اعترت العلاقة، خرج بعدها من ينطق باسم الوفد ويتحدث عن أنّ على الأحرار أن يكونوا يداً واحدة. والمتعارف عليه سياسياً أنّ القوات غالباً ما تلتقط إشارة السعودية وتتصرّف على أساسها، خاصة أنّ نائبها ملحم رياشي خرج من بيت الوسط ليشيد بالحريري ويفتح أبواب الودّ مرحّباً بعودته. وليس بعيداً عن هذا الجو حزب الكتائب الذي زاره مرحّباً بعودته. كلّ استقبالات الحريري في كفّة وزيارات الديبلوماسيين في كفّة مقابلة. أول من زاره كان سفراء الخماسية، أي سفراء كلّ من فرنسا وأميركا ومصر، وزيارة مرتقبة للسفير القطري. أمّا السعودي فلم يطلب موعداً، لكنّ اللافت أنّه حتّى الساعة لم تصدر إشارات سلبية تنبئ بانزعاج سعودي من الزيارة، بل فتحت له أبواب إعلامها لتوضيح موقفه على سبيل الاختبار.
ثبّت الحريري حاجة الشارع السنّي لزعامته، وتالياً لم يعد ممكناً ولادة أيّة تسوية من دونه. زيارته كانت محلّ رصد عربي ودولي يقول المراقبون من حوله، ولكن عودته لن تكون بين ليلة وضحاها. فالأمور معلّقة على تطوّرات المنطقة ومصير غزة وما بعد غزة والتسوية المقبلة.
في حديثه قال الحريري إنّه شعر وهو بين جمهوره كما لو كان في العام 2005، ولمثل هذا القول أبعاده، أي أنّه يبدأ من جديد رحلته مدعوماً بمحبّي والده من حوله وكمعبّر للوحدة الوطنية الجامعة. "التحديات كبرى" قال الحريري وتابع "هناك العديد من الدول التي تسعى إلى تصفير مشاكلها في ما بينها، من دول خليجية وغيرها". معتبراً أننا "نمرّ بمرحلة صعبة، ولكن ربما من الضروري أن نعود خطوة أو اثنتين إلى الوراء لكي نتمكّن من التقدم عشر خطوات إلى الأمام."
في كلمته المقتضبة، مهّد الحريري للمرحلة المقبلة، وأكّد عودته إلى الحياة السياسية. ويقول المقربون إنّ هذه الذكرى ستكون الأخيرة التي سيحييها معلّقاً عمله السياسي.