أصدر المصرف المركزيّ, أوّل من أمس, تعميميْن أساسييْن حملا الرقم 166 والرقم 167. تناول التعميم 166 الإجراءات الاستثنائية لتسديد الودائع المُكوّنة بعد تاريخ 31/10/2019 بالعملات الأجنبية، وتناول التعميم 167 أصول تحويل الموجودات والمطلوبات المحرّرة بالعملات الأجنبية إلى الليرة اللبنانية.
بعبارات بسيطة، سمح التعميم 166 للمودعين الذين يمتلكون حسابات بالعملات الصعبة مكوّنة بعد 31/10/2019 بسحب مبلغ شهريّ مقداره 150 دولارًا أميركيًا في ظلّ تسديد تدريجي للودائع بالعملات الأجنبية. واشترط التعميم، للاستفادة من هذا التعميم، أن لا يستفيد المودع صاحب الحساب من التعميم 158، وأن يكون المودع قد التزم التعميم 154 الدي يفرض إعادة 15% أو 30% (Peps) إلى الأشخاص الذين حولوا أموالًا إلى الخارج، وأن لا يكون الحساب استُخدم في تجارة الشيكات، وأن لا يكون مُجموع تحاويل الحساب من الليرة إلى الدولار تفوق الـ 300 ألف دولار أميركي بعد تاريخ 31/10/2019 (باستثناء تعويضات نهاية الخدمة)، وأن لا يكون الحساب قد سدّد قرضًا بالدولار يفوق الـ 300 ألف دولار أميركي (بعد تاريخ 31/10/2019) بالليرة اللبنانية، وأن لا يكون استفاد من منصّة صيرفة بأكثر من 75 ألف دولار أميركي.
لكن التعميم 166 لم يأتِ على ذكر سعر الصرف المُعتمد إذا كان المودع يريد سحب أكثر من 150 دولارًا أميركيًا شهريًا. وهو ما أصبح يُعرف بـ "سعر صرف السحوبات"، أي السعر الذي على أساسه ستُسحب كمّية من الدولارات من حساب الدولار بالليرة اللبنانية، والذي كان يوازي 15 ألف ليرة للدولار الواحد في التعميم 151. هذا الأمر يُظهر إلى العلن مُشكلة سعر الصرف وصعوبة توحيده خصوصًا أنّ التعميم لم يذكر سعر صرف للسحوبات، مع العلم أنّ التعميم 151 (وغيره) أتى على ذكر هذا السعر سابقًا.
حاكم "المركزي" بالإنابة يرفض رفضًا قاطعًا أن يحدد مصرف لبنان سعر الصرف
من المعروف أنّ حاكم "المركزي" بالإنابة يرفض رفضًا قاطعًا أن يحدد مصرف لبنان سعر الصرف، إذ يعتبر أنّ تحديد سعر الصرف هو من مسؤولية الحكومة عملًا بالقوانين اللبنانية، ويجب أن يصدر عن وزير المال – وزير الوصاية على مصرف لبنان – قرار بهذا الأمر. وتالياً يترك للحكومة الوقت لكي تُحدّد سعر صرف السحوبات. فبحسب المعلومات المتداولة في الإعلام، هناك توجّه إلى إعلان الحكومة عن سعر صرف للسحوبات هذا الأسبوع. ويُتوقّع أن يبلغ هذا السعر الـ30 ألف ليرة لبنانية للدولار الواحد، أي ضِعفي السعر المنصوص عليه في التعميم السابق الرقم 151.
لكن السؤال لماذا 30 ألفًا وليس على سعر السوق المُتداول حاليًا أي 89500 ليرة لبنانية؟
الجواب عن هذا السؤال يفرض ذكر الصعوبات التي تواجه توحيد سعر الصرف، وعلى رأسها مُشكلة القطاع المصرفي الذي سينخفض رأسماله ست مرات لدى تقييمه على سعر 89500 ليرة (بدل 15 ألفًا حاليًا). وهذا سيؤدّي إلى وضع القطاع المصرفي في حالٍ سيؤثّر حكمًا على ودائع المودعين. وعليه، تتريّث السلطة النقدية والتنفيذية في وضع سعر صرف خوفًا من أنّ أيّ قرار في هذا الإطار قد يُحمّلها تبعات هي في غنًى عنها.
الجدير بالذكر أنّ التعميم 167 الذي تناول أصول تحويل الموجودات والمطلوبات المحرّرة بالعملات الأجنبية إلى الليرة اللبنانية، لم يأتِ على ذكر سعر صرف بالأرقام، بل اكتفى بتحديد مصدر السعر، أي المنصّة الإلكترونية للمصرف المركزي (صيرفة؟ بلومبرغ؟...)، وهو ما أفضى إلى تريّث المصرف المركزي إفساحًا في المجال لإقرار خطّة حكومية شاملة.
ومن المشكلات التي يواجهها أيضًا توحيد سعر الصرف السحوبات على سعر صرف السوق، هو عدم قدرة المصارف على تلبية الطلب على السحوبات بالليرة اللبنانية إذا أراد المودعون سحب ودائعهم، وهو أمر معروف نظرًا للإستراتيجية التي اتّبعها المصرف المركزي منذ آذار 2023، والتي تعتمد على سحب الكتلة النقدية من السوق بهدف السيطرة على سعر الصرف.
من هذا المُنطلق، ألقى المصرف المركزي بكرة النار إلى الحكومة التي هي، بحكم تنوعها التمثيلي، قادرة على استيعاب ردّة فعل المصارف أو المودعين.
إنّ إصدار التعميم 166 بديلًا من التعميم 151 هو أمرٌ إيجابيٌ بالمطلق، لأنّ هناك ضمانة لـ 150 دولارًا أميركيًا للمودعين من دون أي هيركات عليها، وهو ما لم يكن مُمكنًا سابقًا. وعلى الرغم من هذه الإيجابية، لا يُمكن الحديث عن خروج من الأزمة ما دامت لم تقل الحكومة ماذا تريد أن تفعل بدينها العام، وإذا ما كانت ستنوي الاستمرار في اقتراحها الأول – أي شطب الديون، واستطرادًا الودائع المصرفية، أم أنّ هناك حلولًا أخرى تسمح بإعادة هيكلة الدين العام ما دام قسم كبير منه داخليًا وتاليًا يُمكن التفاوض مع المُقرضين لجدولته على آجال طويلة.
في الختام، ليس بالوسع القول إلّا أنّ الحلول الجزئية لم تعد تُجدي نفعًا. فقد استُنزفت كلها، والمطلوب وقف استخدام الاقتصاد في الصراعات السياسية وعدم رهن الحلول المالية والاتصادية لإعادة انتظام المالية العامة والاقتصاد بالحلول السياسية تحت طائلة تراكم الخسائر التي لن يستطيع بعدها لبنان الخروج من أزمته لعقودٍ عدّة بسبب فقدان الثقة. هذه الثقة لن يُعيدها اتفاق مع صندوق النقد من هنا أو تعميم صادر عن مصرف لبنان من هناك، إنما عملية إصلاحية تشمل قبل كل شيء القطاع العام والدين العام ومن خلفهما القطاع المصرفي، وهو أمرٌ من غير المرجّح حصوله في المرحلة المقبلة بسبب التشرذمّ السياسي القائم وإعطاء الصراع السياسي الأولوية بدلًا من الأزمة الاقتصادية.
إنّ مالية الدولة اللبنانية هي في حالة مزرية على ما تُظهره أرقام الحساب الرقم 36 للحكومة (أرقام رئيس حكومة تصريف الأعمال) والذي فيه 150 مليون دولار أميركي كاش – كافية لتغطية شهر واحد أو شهرين من الإنفاق الحكومي الحالي، و100 تريليون ليرة لبنانية غير قابلة للاستخدام بفعل تداعياتها على سعر الصرف في حال تحويلها إلى دولار أميركي بغية تغطية نفقات الحكومة (نتيجة حتمية لدولرة الاقتصاد!). فهل تكون مُشكلة المالية العامة التي ستظهر حكمًا في الأشهر المطلة بسبب غياب التمويل (مصرف لبنان رفض على لسان حاكمه بالإنابة تمويل الحكومة سواء بالدولار أو بالليرة)، كافية للدفع باتّجاه إقرار قوانين إصلاحية أم أنّ الحكومة ستستمرّ في سياسة الهروب إلى الأمام عبر فرض ضرائب بالدولار الأميركي لضمان استمرارها مُتناسية مُشكلة الودائع؟