لا شكّ في أن معايير الجمال تبدّلت على مرّ العصور إثر بتطوّر الشعوب ونتيجة اختلاف ثقافاتها. ففي الوقت الذي كان يُنظر فيه إلى المرأة الممتلئة في العصور الوسطى (القرن الـ17) كما لو أنّها رمز للجمال، لكون بدانتها علامة على خصوبة الجسد الأنثوي وصلاحيّته للحمل والرضاعة، خصوصاً أنّ دور النساء في تلك العصور كان محصوراً بالعمل المنزلي والإنجاب ورعاية الأطفال. لاحقاً، أصبحت نحافة المرأة هي معيار الجمال بعد دخول أوروبا عصر التنوير، والثورة الصناعية (القرن الـ18) التي دفعت النساء إلى خسارة الوزن بحكم العمل في المصانع، حتّى صار فقدان الوزن من معالم الجمال.
أما في القرن التاسع عشر، مع الغزو الأوروبي للشرق، فقد سادت معايير الرجل الأبيض في الجمال، إذ أخضعها للسياسات الاستعمارية، حتى رحنا نجد نساء في لوحات ذلك العصر وتماثيله منحوتات وشديدات البياض.
واستمرّ الحال على هذا المنوال حتّى القرن الواحد والعشرين على الرغم من موجّة التحرّر التي شهدها القرن العشرين بعد اندلاع الحربين العالميتين الأولى والثانية وظهور المدارس التشكيلية، وتنامي الموجات التحرّرية ضدّ سيادة الرجل الأبيض، وبروز معايير جمالية أكثر تركيزًا على جوهر المرأة وحالتها النفسية.
فعلى الرغم من سيطرة اللون البرونزي للبشرة على معايير الجمال، اليوم، لا تزال المعايير الغربية هي المرجع للجمال، والدليل أنّ أكثر المنتجات مبيعاً حول العالم هي منتجات تبييض البشرة. وما ساهم في ترسيخ معايير الجمال الغربية اكتساح أفلام هوليوود العالم، وتسويقها للمرأة الجميلة على أنّها نحيفة، شفتاها زهريتان وممتلئتان، أمّا تضاريسها فواضحة المعالم ومنحوتة بشكل يركز على كبر حجم منطقتي الصدر والمؤخّرة. وهو ما تبنّته أيضاً وسائل التواصل الاجتماعي وسعت إلى التسويق لمعايير جمال تكاد تكون خرافية، يستحيل الوصول إليها إلّا عبر عمليات التجميل من شفط ونحت، وإبر الحقن، وهذه كلها تكلّف الكثير من المال، ولعلّ أبرز من روّج لهذه الظاهرة هم عائلة الكارداشيانز، من تلفزيون الواقع keeping up with the Kardashian ليبقى الجمال بمعاييرنا الراهنة محصوراً من جديد بالطبقة الميسورة والغنية.
بروز عارضات الأزياء ذوات الوزن الزائد
وعلى الرّغم من كلّ ما سبق، شهدت معايير الجمال منذ العام 1998 بروز نساء ثائرات خرجن عن المألوف ليطبعن خطاً جديداً للجمال، وعلى رأسهن عارضة الأزياء الأميركية إيمي، التي كانت أول عارضة أزياء ذات وزن زائد تحقّق نجاحاً كبيراً في القطاع التجاري، وتبعتها أنجيليكا مورتون، 1997، وميا تايلر، 1998، حتّى وصلنا إلى أِشهر عارضة أزياء وزن زائد في العالم وهي آشلي غراهام، في العام 2019.
وهذا التغيير لم يكن وليد اللحظة، بل نتيجة مساع قامت بها نساء في عالم الموضة، تمرّدن على مقاييس الجمال المفروضة. ورافق هذا التمرّد موجة عالمية تطالب بتقبّل جميع فئات المجتمع، وتقول بالاحتفال بالتنوّع، لنشهد حقبة جديدة من الجمال تشمل جميع النساء من مختلف الأعراق، والطبقات الاجتماعية، والأحجام، أساسها الثّقة بالنفس وتقبّل الجسد كما هو.
وفعلاً تمكّن هذا التيار المدعوم من حركات نسوية، من فرض نفسه على عالم الجمال والموضة، ليبدأ مصممو الأزياء والعلامات التجارية الضخمة بالاهتمام في إجراء تجارب أداء لعارضات أزياء من الوزن الزائد، ومن أعراق وأعمار مختلفة، لنرى عارضة أزياء مصابة بالبهاق وهي ويني هارلو، تصبح الوجه الإعلامي لأشهر ماركات الأزياء ومساحيق التجميل العالمية.
معايير الجمال في الدول العربية
في المقابل، هناك تيّارات تعارض هذا التوجه، وتعتبره تسويقاً للبدانة، كما أنّ هذه النماذج تبقى مرفوضة في البلدان العربية، حيث لم يتمكّن هذا التيار من خرق الأفكار السائدة حول معايير الجمال، ويبقى المصممون العرب متشبّثين بعارضات معظمهن بيضاوات وشديدات النحافة.
وبرزت في بعض هذه البلدان العديد من محاولات كسر الصورة النمطية للجمال، أبرزها حفل ملكات جمال بدينات العرب، في العام 2013، الذي أطلقه للمرّة الأولى برنامج "أحمر بالخط العريض" مع الإعلامي مالك مكتبي، على شاشة الـlbc، وقد أُعيدت هذه التجربة في الجزائر العام الماضي 2023. كما شهد حفل انتخاب ملكة جمال لبنان فوز دلال حبّ الله بلقب وصيفة رابعة وهي ذات بشرة سمراء وتميزت بحضور لافت وبشعر قصير أجعد أدكن. كذلك أصبحنا نرى ممثّلات لبنانيات ممتلئات في المسلسلات، عالجن مسألة البدانة، ونظرة المجتمع الشرقي للمرأة البدينة، ومن بينهن ناتالي سلامة ولمى مرعشلي.
فهل ظاهرة العارضات البدينات صحّية؟ وما انعكاساتها على الفتيات المراهقات؟ وهل النماذج المتعدّدة للجمال أصبحت تشكّل ضياعاً، إذ من الأفضل أن تكون المعايير أحادية؟
تسليع المرأة
تقول المتخصّصة في علم النفس الدكتورة لانا قصقص لـ"الصفا نيوز" إنّ "موضوع عارضات الأزياء ذوات الوزن الزائد، قد يكون إيجابياً، لأنّه يعزّز ثقة النساء اللواتي لديهن وزن زائد ويشعرهن بأنّهن غير مهمّشات ومرئيات ويتم منحهن فرصة كغيرهن من النساء. إلّا أنّ المشكلة تكمن في التسويق، وليس فقط في صفوف نساء الوزن الزائد بل أيضاً في صفوف النحيفات وغيرهن. فالتسويق بذاته لشكل المرأة هو تسليع لها، وهو يجب أن يستخدم للسلع فقط وليس لأجساد النساء. فما نراه اليوم هو استخدام جسد المرأة لتسويق بعض السلع، إذ نرى نساء في معظم الإعلانات التسويقية العائدة للسيارات أو للعطور، أو لغيرهما. ويجب الانتباه إلى استخدام عارضات الوزن الزائد لتسليع المرأة مجدّداً بمعايير أخرى".
"ولا شكّ في أنّ هناك مخاطر صحّية للنساء النحيفات والبدينات في الوقت نفسه"، تتابع قصقص، "ففي الحالة الأولى قد ترتفع نسبة إصابة النساء بمرض اضطراب الغذاء، المعروف بالـanorexia، كما يفضي التسويق للبدانة إلى اضطرابات جسدية مرتبطة بالسمنة كالضغط والسكري وأمراض القلب".
والمطلوب، برأي قصقص، "تقبّل النساء ودمجهن بالمجتمع على اختلاف أحجامهن، دون التسويق لمعيار على حساب آخر، ويجب الاستناد إلى معيار الـBMI الذي يحدّد مدى صحّة جسم الشخص. وإذا ما كان ضمن المعدل الطبيعي للوزن، ما يسمح للنساء بالتركيز على أمور أخرى غير شكلهن الخارجي ووزنهن".
وعن معضلة عارضات الأزياء ذوات الوزن الزائد، تقول راويا عيتاني، "ميتا كوتش” متخصّصة في علاقة الصورة الذاتية، إنّ الإيجابي من هذه الظاهرة، هو أنّ عارضات الأزياء عادة يُنظر إليهن من قبل الفتيات كمثال يحتذى به، تتبعه النساء عموماً لمعرفة الموضة، وكيف عليهن إبراز جمالهن، واليوم أصبح بإمكان النساء الممتلئات أيضاً، بفضل هؤلاء العارضات، والمؤثّرات على مواقع التواصل الاجتماعي ذوات الوزن الممتلئ، أن يحجزن لهن مقعداً في عالم الموضة وتنسيق الملابس، وأصبحن يعرفن أيّ تصاميم تتلاءم مع أجسادهن من دون الشعور بالخجل من شكلهن، وتضمن لهن إطلالة أنيقة من غير أن تكون صادمة. والهدف هو أن يتقبّل المجتمع الفتيات بمختلف أشكالهن، أرفيعات كنّ أم متوسّطات الحجم، أو لديهن وزن زائد، وتقبّل الاختلاف هو مسألة صحية".
إلّا أنّ إبراز البدانة والسمنة لدى المرأة بطريقة مبالغ فيها تخدش النظر، هو أمر غير صحي، ترى عيتاني، "وقد يشوّه الصورة التي تحاول تلك النساء نقلها عن أنفسهن. كما أنّ هناك مشكلة أخرى وهي التسويق للبدانة من مفهوم خاطئ جداً يقول أن لا عيب في الوزن الزائد ولو تسبّب بأمراض للمرأة، وهو ما يجب أن ننتبه إليه. فما دام الشكل لا يؤثر على صحّة الإنسان، فلا مشكلة، وهذه القاعدة تشمل أيضاً النساء النحيفات واللواتي يبالغن في نسبة النحافة ما يعرضهن للكثير من الأمراض".
وتضيف "نعيش في عصر مليء بالتشوّهات الفكرية والتناقضات، فبين التسويق لمعايير جمال معينّة، معظمها يستند إلى عمليات الشفط والنحت، وبين تقبّل الاختلاف ونماذج جمال أخرى، ينبغي تقبّل الشكل كما هو ولو تسبّب لصاحبته بمشاكل صحية عديدة. وعليه، لم يعد هناك حلول وسطية، لتصبح الفتيات أمام نماذج متطرّفة ومفروضة عليهن، وكل حل أخطر من الآخر. وأكّدت أن لا وجه واحداً للجمال، فالمسألة نسبية وتختلف من شخص لآخر. فيما حبّ النفس وتقبّلها يبدأأن بإنقاذها".
وتختم عيتاني "مع ازدياد الوعي حول أهمّية تقبّل الاختلاف بدأنا نشهد مبادرات لنساء يؤسّسن متاجر مخصصة لبيع ألبسة ذات أحجام كبيرة، وهنّ بهذه الخطوة يساعدن كل امرأة تعاني من وزن زائد وتجد صعوبة بإيجاد مقاساتها في المتاجر العادية. هكذا تتمكّن هذه المرأة من ارتداء ملابس جميلة تلائم جسدها".
شهادة عارضة ذات وزن زائد
تشارك عارضة أزياء لبنانية ذات وزن زائد، تجربتها مع "الصفا نيوز"، مفضّلة عدم الكشف عن اسمها، تقول "منذ سن الـ14، نما جسمي بطريقة مغايرة عن زميلاتي في الصف، إذ تركّزت الدهون في مناطق الصدر والمؤخرة والفخذين فيما بقي خصري رفيعاً وكذلك يداي. في البداية كنت أشعر بالخجل من شكلي، الذي كان مختلفاً تماماً عن جميع بنات جيلي. ومع الوقت تعلّمت أن أحبّ جسدي، وأتقبّل شكله كما هو، لا بل أصبحت أعرف كيف أبرز جمال قوامي وأختار ملابس تبرز التضاريس الجميلة وتغطّي العيوب. وكانت النتيجة طيبة، إذ أصبح شكلي يجذب الكثير من الرجال أينما ذهبت، ثم بدأت بعض دور الأزياء وعيادات التجميل تطلبني لأصوّر لها إعلانات. هكذا بدأت أشقّ طريقي إلى عالم الموضة والجمال ولا يزال عمري 21 عاماً".
في المحصلة، يبقى الوعي أهمّ معيار جمالي، فكلّما كانت المرأة عارفة أهمّية صحتّها الجسدية والنفسية والعقلية تقبلت شكلها وأغرمت به وحمت نفسها من أيّ أمراض. وكلما تبنّت أفكاراً معمّمة دون الغوص في أبعادها كانت غير مكتفية بشكلها وعجزت عن تقبّل نفسها. الوعي مهم لكشف سر الجمال.