تنفّست ألمانيا الصعداء مع هزيمة مرشّح حزب "البديل من أجل ألمانيا" اليميني المتطرّف أوفيه ترومه، في انتخابات محلّية، الأحد، بمنطقة زالا-أورلا بمقاطعة تورينغن في جنوب شرقي ألمانيا- ولو بفرق ضئيل، أمام مرشّح الحزب الديموقراطي المسيحي المحافظ كريستيان هيرغوت.
على رغم أنّ المنطقة المتنافس عليها صغيرة ولا يتعدّى عدد ناخبيها الـ66 ألفاً، بدت رمزيّتها كبيرة، بعدما تحوّلت إلى مقياس لاتجاهات الرأي العام الألماني، منذ تمكّن "البديل من أجل ألمانيا" من دخول الرايشتاغ في الانتخابات التشريعية عام 2017، وتحقيقه مركزاً خامساً في الانتخابات التي أجريت عام 2021 بحصوله على 10.3 في المئة من الأصوات. وفي كانون الأول الماضي انتزع الحزب اليميني المتطرّف أول رئاسة لبلدية في بيرنا المدينة التي تعدّ 40 ألف نسمة في ولاية ساكسونيا الشرقية.
أمّا السيناريو الأكثر رعباً، فمصدره الاستطلاعات التي ترجّح فوز "البديل من أجل ألمانيا" بنسبة 32 في المئة من الأصوات في الانتخابات الوطنية التي ستجري في 2025 ليحلّ بعد الحزب الديموقراطي المسيحي، متقدّماً على الحزب الاشتراكي الديموقراطي بزعامة المستشار أولاف شولتس. وكلّ الاستطلاعات تشير إلى أنّ الحزب اليميني المتطرّف ينافس بقوّة على الفوز في انتخابات ثلاث مقاطعات ستجري هذا العام. وتضعه الاستطلاعات أيضاً في موقع الصدارة خلال انتخابات البرلمان الأوروبي في حزيران المقبل.
هذه التوقّعات أحدثت زلزالاً في الأوساط السياسية والاجتماعية في ألمانيا ولدى كلّ المعارضين للتيار الشعبوي، لا سيّما أنّ الكوارث التي تسبّب بها لألمانيا ولأوروبا والعالم لا تزال ماثلة للعيان. فالظاهرة التي نشأت ردّاً على نقمة الناس من سياسات الأحزاب التقليدية واخفاقاتها الكثيرة، لم تعد حركة هامشية أو من الممكن احتواؤها. ويوظّف اليمين المتطرف كلّ الاختلالات في الدولة والمجتمع لمصلحة توطيد صعوده المتواصل. زعيمة "البديل من أجل ألمانيا" فراوكه بيتري، توقّعت مثلاً الوصول إلى السلطة في انتخابات 2029.
يلعب اليمين المتطرّف في ألمانيا كما في بلدان أوروبية أخرى على مسألة الهجرة ومعاداة الإسلام لجذب الناخبين نحوه
لكن ما الذي جعل الألمان المناوئين لليمين المتطرّف يعبّئون جهودهم أخيراً وينزلون إلى الشارع؟
في 10 كانون الثاني الجاري، كشف موقع "كوريكتيف" للأخبار الاستقصائية، عن اجتماع عقد في تشرين الثاني من العام الماضي لقوى اليمين المتطرّف، شارك فيه ممثّلون عن "البديل من أجل ألمانيا" ونازيون جدد ورجال أعمال في مدينة بوتسدام، حيث تمّت مناقشة سياسات للهجرة، تضمّنت خططاً للترحيل الجماعي للملايين ممّن هم من أصول أجنبية ولـ"غير المندمجين" في المجتمع الألماني. وزاد من خطورة الاجتماع مشاركة زعيم حزب "الهوية النمسوية" اليميني المتطرّف مارتن زيلنر فيه.
وفي تحذير واضح، علق شولتس على الاجتماع بأنّه يدلّ على أنّ "العفريت قد خرج من القمقم". وعملياً، وضعت الحكومة مسؤولي "البديل من أجل ألمانيا" تحت رقابة الاستخبارات وسط تصاعد الدعوات إلى حظر الحزب.
واعتبرت وزيرة الداخلية الألمانية نانسي فيزر أنّ "هذا الاجتماع يذكّر بمؤتمر فانزي الشنيع، الذي خطّط فيه النازيون سنة 1942 لإبادة يهود أوروبا".
وتحرّك الشارع الألماني بدوره رفضاً لليمين المتطرّف، حيث تظاهر أكثر من مليون ونصف مليون شخص في عشرات المدن الألمانية في الأسبوع الذي سبق انتخابات منطقة زالا-أورلا. وهذا الاستنفار الذي شمل سياسيين ورجال دين ومدرّبي أندية كرة القدم، ترك أثره في هزيمة المرشّح اليميني المتطرّف.
فضيحة "الترحيل" هزّت أيضاً علاقات "البديل من اجل ألمانيا" مع حزب التجمّع الوطني اليميني المتطرّف في فرنسا بزعامة مارين لوبن، التي نأت بنفسها أخيراً عن حليفها الألماني، معربة عن استعدادها للوصول إلى مرحلة قطع العلاقات معه.
لكن المسألة لا تنتهي عند هذا الحد. فالاختبار الحقيقي سيكون في انتخابات المقاطعات وانتخابات البرلمان الأوروبي بعد خمسة أشهر. ومن شعوره بالثّقة التي بات يتمتع بها، يعلن "البديل من أجل ألمانيا"، منذ الآن، أنّه إذا وصل إلى السلطة فسيجري استفتاءً حول خروج ألمانيا من الاتحاد الأوروبي.
ويلعب اليمين المتطرّف في ألمانيا كما في بلدان أوروبية أخرى على مسألة الهجرة ومعاداة الإسلام لجذب الناخبين نحوه. ويروّج لفرضيّة "الاستبدال العظيم" القائمة على أساس أنّ العرق الأبيض مهدّد بالانقراض في أوروبا مع تزايد أعداد المهاجرين من الخارج.
مثل هذه الفرضيات تلقى ميلاً إلى القبول لدى كثير من النّاس عندما تكون ظروفهم المعيشية ضاغطة، من التضخّم إلى زيادة في أعداد العاطلين عن العمل، أو فرض سياسات حكومية مرفوضة شعبياً. وانتفاضات المزارعين التي تعمّ ألمانيا ودولاً أوروبية أخرى، خير دليل على ذلك. ففرض ضريبة على الديزل المستعمل في الأراضي الزراعية أشعل التظاهرات في ألمانيا وهولندا وفرنسا، بينما منافسة المنتجات الأوكرانية في بولندا وبلغاريا ورومانيا وسلوفاكيا، كان لها التأثير نفسه.
وتُحسن التيارات الشعبوية التي توطّد أركانها تدريجياً في الدول الأوروبية، ركوب موجات الاحتجاجات الشعبية، لرفع مستوى التأييد لها وتغذية حسّ العداء للأجانب.
واستشعاراً بالخطر الزاحف، دقّت الحكومة النمسوية ناقوس الخطر الأسبوع الماضي، مع شنّها حملة توقيفات وعمليات تفتيش في أوساط اليمين المتطرّف، محذّرة من خطر تزايد أعداد الناشطين في صفوفه.
ويوطّد اليمين المتطرّف عبر أوروبا علاقاته البينية استعداداً للمستقبل. وعلى سبيل المثال عقد لاسلو توروتسكاي زعيم حزب "وطننا" المجري المتطرّف الأسبوع الماضي، مؤتمراً شارك فيه زعماء من "البديل من أجل ألمانيا" و"منتدى الديمقراطية" الهولندي اليميني المتطرف. وفي المؤتمر، أعلن توروتسكاي أن حزبه قد يطالب بالسيادة على منطقة مجاورة تقع في غرب أوكرانيا يسكنها نحو 150 ألفاً من المنتمين للعرقية المجرية، إذا خسرت أوكرانيا كيان الدولة بسبب الغزو الروسي.
إنّ صعود اليمين المتطرّف يشكّل تهديداً بتغيير وجه أوروبا، ويوقظ تاريخاً أسود ظنّت البشرية أنّه بات وارءها.