منادياً بحلّ ديبلوماسي، حضر الموفد الأميركي الخاص آموس هوكشتاين إلى لبنان. لا يحمل في جعبته أكثر من اقتراح يؤمّن عودة الهدوء والاستقرار إلى شمال إسرائيل. جاء يبحث عن صيغة تعيد الوضع جنوباً إلى سابق عهده، أي إلى ما قبل حرب غزّة وفتح حزب الله جبهة الجنوب كجبهة إسناد.
يعلم الموفد الأميركي مقدار المحاذير التي تحيط بمهمّته. سمع كلام الأمين العام لحزب الله السيد حسن نصر الله جيداً واستفسر بشأنه، وعلم أنّ أيّ حلّ لن يقبل به حزب الله قبل انتهاء حرب غزّة، وأنّ قراره هذا نهائي لا عودة عنه. لكنّ هذا لم يمنع هوكشتاين من المحاولة مجدّداً وتقديم المزيد من الإغراءات للبنان، لكي ينتهي إلى اتّفاق ينهي الحرب على جبهة الجنوب. وهو تمنّى "العمل على تهدئة الوضع في جنوب لبنان"، وإذا لم يكن ممكناً التوصّل إلى اتّفاق حلّ نهائي في الوقت الراهن فالمستطاع، بحسب نظرته، "العمل على حلّ وسط مؤقّتاً لعدم تطوّر الأمور نحو الأسوأ".
رسالة علنية واضحة "الحكومة الإسرائيلية تفضّل الحلّ الديبلوماسي"
على حدّ توصيفه، فإننا "في مرحلة صعبة ومرحلة طوارئ" استوجبت بحثه "مع المسؤولين اللبنانيين في كيفية الوصول إلى حلّ ديبلوماسي للأزمة على الحدود مع إسرائيل، يسمح للبنانيين بالعودة إلى منازلهم في الجنوب ولسكّان شمال إسرائيل بالعودة إلى مستوطناتهم"، ناقلاً رسالة علنية وواضحة، هو الذي أنهى زيارة لإسرائيل قبل نحو أسبوع، مفادها أنّ "الحكومة الإسرائيلية أكّدت أنّها تفضّل الحلّ الديبلوماسي"، وهو الحلّ الذي "يريده الطرفان في إسرائيل كما في لبنان".
هوكشتاين يبدي مرونة كبيرة في التعاطي، قاصداً بذلك التمايز عن اللغة الأوروبية التي لم تتوقّف عن التهديد والوعيد والتحذير من حرب إسرائيلية وشيكة، في حال استمرار حزب الله في خوض حربه على إسرائيل انطلاقاً من منصّة حدوده الجنوبية.
لكنّها مرونة قد لا تفضي إلى أيّة خطوات عملية. فلم يكد هوكشتاين ينحز زيارة هي الثالثة للبنان منذ بدء عدوان إسرائيل على غزّة والشروع في الحديث عن اقتراحات عملية بالانسحاب الإسرائيلي من المناطق المحتلّة وتنفيذ القرار 1701 حتّى أعلن حزب الله صراحة أنّه غير معني بأيّ مفاوضات بهذا المعني ما لم تنهِ إسرائيل حربها على غزّة ملمّحاً من جديد إلى ترابط الحلّ بين وحدة الساحات.
وبذلك يكون حزب الله قد أعاد إقفال الباب في وجه أيّه تفسيرات لحديث أمينه العام وخلاصته أنّ أمام لبنان فرصة تاريخية، معيداً تصويب البوصلة بالاتجاه الذي يحرص عليه، وهو أن لا مفاوضات أحادية ما دامت الكلمة للميدان من غزّة إلى الجنوب فالجولان والعراق وصولاً إلى اليمن.
لكن في لبنان قد تجد من يقول إن حزب الله بدأ فعلاً بالتفاوض بشأن الترسيم وتنفيذ القرار 1701 قبل نهاية حرب غزّة، بدليل أنّ رئيس مجلس النواب نبيه برّي، مفوّضاً من حزب الله، استقبل الموفد الأميركي وتسلّم منه النقاط المقترح الاتفاق بشأنها بين لبنان وإسرائيل وإبداء مرونة إسرائيلية بالتجاوب حيال الترسيم البرّي. ولو لم يكن ثمة استعداد للتفاوض وإبداء مرونة لبنانية لما زار هوكشتاين بيروت مجدّداً.
لكنّ هنالك وجهة نظر أخرى تقول أن استقبال برّي ومباحثاته مع هوكشتاين لم تخرج عن سياق تلقّي عرض أميركي، أو محاولة أميركية لإعادة الهدوء إلى الجبهة الشمالية وضمان عودة سكّان المستوطنات، وأن لا مانع للبنان من تلقّي العروض والإجابة عليها. وقد كان جواب لبنان واضحاً وهو أنّ على إسرائيل تنفيذ القرار الدولي، وأنّ لبنان مستعدّ لتنفيذه متى التزمت إسرائيل ذلك. لكنّ هوكشتاين لم ينقل المطلوب لبنانياً، ولم ينل أيّة إشارة إسرائيلية تُنبئ بالاستعداد لتنفيذه. هذا من جهة، ومن جهة ثانية، فإنّ المعني الأول بالجبهة، أي حزب الله، يترك الكلمة للميدان، رافضاً الدخول في بحث أيّ مقترح ولو تحت وطأة التهديدات بالحرب الإسرائيلية على لبنان.
في الوضع الراهن، تترك إسرائيل الكلمة لحربها الشرسة على الفلسطينيين ومواجهة حزب الله، محاولةً جرّه إلى حرب واسعة، لكنّه، رغم الخسائر بالأرواح التي مني بها ورغم الدمار الذي يلحق بالمنازل في القرى الحدودية، لا يزال يلتزم الردّ على مستوى الضربات الإسرائيلية، متجنّباً منح بنيامين نتنياهو فرصة تحويل الأنظار عن جرائمه في غزّة وتحقيق مآربه في ساحة الجنوب.
في تقديرات مواكبي زيارة هوكشتاين ونتائج الاجتماعات أنّ الموفد الأميركي هدفه البحث في عودة الهدوء، وهذا ما يعتبره لبنان الرسمي علامة إيجابية لكونه لا يزال محور الاهتمام الدولي وتحت أنظاره، من ناحية لجم إسرائيل ومنعها من توسعة حربها جنوباً، أو العمل على صيغة للحلّ تؤمّن استعادة لبنان أراضيه المحتلّة، وإن لم يكن اليوم، ففي مرحلة ما بعد حرب غزّة.
وضع هوكشتاين صيغة لا ترقى إلى التوقّعات في عهدة المسؤولين، وأرجأ بقيّة التفاصيل المتعلّقة بتطبيق القرار 1701 والترسيم البرّي إلى مراحل لاحقة، وبذلك لا أفق إيجابياً من الزيارة ما دامت توقّعات موفدي الغرب تقول إن حرب غزّة طويلة، وهذا يعني أنّ جبهة الجنوب ستبقى مفتوحة على المجهول الذي قد يكون حرباً وشيكة موسّعة، يحذّر منها الغرب ويرجّح كفّتها حزب الله لوجود أسباب تبرّرها بالنّسبة للإسرائيلي ولا تبرّرها بالنسبة للغرب وأميركا.
المصادر التي ذكرت مضمون ما حمله الموفد الأميركي، قالت إنه لم يحمل أيّ طرح إيجابي أو التزام من ناحية إسرائيل، بقدر ما حمل اقتراحات على لبنان تنفيذها، ما يعني عدم وجود نيات إسرائيلية جدّية للحلّ.