لا يحمل العام 2024 الكثير من الأنباء السارّة لأوكرانيا. مسار الأحداث في الأشهر الستّة الأخيرة يجعل البلاد تقف على مفترق إستراتيجي، بين مواصلة الحرب بكلفة بشرية واقتصادية باهظة أو الذهاب نحو تجرّع الكأس المرّة والدّخول في مفاوضات مع روسيا.
ليس بخافٍ أنّ الرهان في أوكرانيا، وحتّى لدى الحلفاء، كان على الهجوم المضاد الذي بدأ في حزيران 2023 بدعم غربي قوي. لكن بعد ستّة أشهر لم يحقّق الهجوم سوى نتائج متواضعة لا يعتدّ بها. هنا بدأت نقطة تحوّل في الداخل والخارج.
في الداخل، برزت للمرّة الأولى، منذ بدء الحرب قبل 22 شهراً، أصواتٌ تعارض الرئيس فولوديمير زيلينسكي. الصّوت الأكثر دويّاً كان لرئيس الأركان الجنرال فاليري زالوجني، الذي أقرّ في تصريحات لمجلة "الإيكونوميست" البريطانية في الخريف الماضي، بأنّ الجبهات وصلت إلى "طريق مسدود". وسارع زيلينسكي إلى مخالفة رئيس أركانه والرجل الذي يعزى إليه الفضل عمليّاً في صدّ الهجوم الروسي عن كييف وخاركيف والانتقال في النصف الثاني من 2022 إلى هجوم سريع معاكس، استعاد فيه أجزاء كبيرة من الأراضي التي سبق أن سيطر عليها الروس في مستهلّ الهجوم.
قال زيلينسكي إنّه بمزيد من المساعدات الغربية العسكرية يمكن اختراق الدفاعات الروسية وما يسمّى "خط سوروفكين" نسبة إلى قائد القوات الروسية السابق في أوكرانيا الجنرال سيرغي سوروفكين، الذي عزل من منصبه بعد تمرّد قائد مجموعة "فاغنر" العسكرية الخاصة في حزيران 2023.
ينتظر زيلينسكي بفارغ الصبر وصول الجيل الرابع من المقاتلات الأميركية من طراز "إف-16" من دول أوروبية تعهّدت تزويد كييف بها بإذن من واشنطن. كما يلحّ زيلينسكي في طلب المزيد من الأنظمة الصاروخية الأميركية بعيدة المدى من طراز "اتاكمز" فضلاً عن صواريخ من بريطانيا مثل "ستورم شادو"، والتي أثبتت فاعليتها في ضرب أهداف في عمق الأراضي التي تسيطر عليها روسيا، وخصوصاً السفن الروسية في البحر الأسود، وكان آخرها تدمير سفينة الإنزال "نوفوتشيرسك" التي فُقد على متنها 33 بحاراً أواخر الشهر الماضي، بينما ردّت روسيا بتصعيد صاروخي هو الأوسع على كييف وخاركيف وأوديسا ومدن أوكرانية أخرى.
يعتقد زيلينسكي أنّه بمزيد من الأسلحة الغربية المتطورة، وبإطلاق حملة تجنيد لـ500 ألف رجل يمكن وقتذاك طرد القوات الروسية إلى خارج الحدود، وتالياً إرغام الرئيس الروسي فلاديمير بوتين على التفاوض من موقع الضعيف والقبول بدفع تعويضات لأوكرانيا عن خسائرها في الحرب، فضلاً عن تتويج ذلك بدخول مظفّر لكييف إلى حلف شمال الأطلسي والإتحاد الأوروبي، ممّا يضمن الأمن الأوكراني على المدى البعيد.
يخالف زالوجني رأي زيلينسكي ولا يرى أنّ تجنيد 500 ألف رجل، بالأمر المتاح سواء على الصعيد العملي أو من الناحية المالية. وفي الأشهر الأخيرة، عمد زيلينسكي إلى إقالة المسؤولين عن مكاتب التجنيد في البلاد، بسبب عدم تمكّنهم من القيام بالمهام الملقاة على عاتقهم، وسط أنباء عن فضائح نتيجة تلقّي بعضهم رشى في مقابل إعفاء شبان من الخدمة.
وإلى زالوجني، يبدي رئيس بلدية كييف الملاكم السابق فلاديمير كليتشكو امتعاضاً متزايداً ممّا يسميه "الميل الاستبدادي"، الذي بدأ يظهره زيلينسكي ورفضه إجراء الانتخابات الرئاسية هذا العام، بذريعة قانون الطوارىء والأحكام العرفية المفروضة منذ بدء الحرب في شباط 2022.
لم يخف زيلينسكي جزعه من سيناريو وصول ترامب مجدّداً إلى البيت الأبيض، لأنّ ذلك يعني ببساطة فرض تسوية ستأتي على حساب أوكرانيا.
المأزق الداخلي وفشل الهجوم المضاد، ترافقا مع رفض الجمهوريين في الكونغرس الموافقة على حزمة مساعدات أميركية جديدة لأوكرانيا تبلغ 61 مليار دولار، من ضمن معونة طارئة طلبها الرئيس جو بايدن وتبلغ قيمتها 106 مليارات دولار، بينها 14 مليار دولار لإسرائيل عقب اندلاع حرب غزّة، فضلاً عن مساعدات لتايوان ولتعزيز أمن الحدود الجنوبية للولايات المتحدة في مواجهة الهجرة غير الشرعية عبر المكسيك.
يرفض الجمهوريون الإفراج عن المساعدة المخصّصة لأوكرانيا، بسبب ما يرونه تهاوناً من قبل بايدن في موضوع إصلاح قوانين الهجرة، بحيث يريدون إدخال تعديلات جذرية، تتطلّب انفاق مبالغ كبيرة لوضعها موضع التنفيذ. ولا تزال القضية موضع تفاوض بين الحزبين الديموقراطي والجمهوري.
علاوة على ذلك، تتصاعد الأصوات داخل الحزب الجمهوري التي تشكّك في جدوى إرسال المزيد من المساعدات لأوكرانيا، في حين لا يمتلك بايدن إستراتيجية واضحة في ما يتعلّق بمستقبل النزاع هناك. والرئيس السابق دونالد ترامب سبق أن صرّح بأنّه لو وصل إلى البيت الأبيض في الانتخابات الرئاسية في تشرين الثاني المقبل، فإنّه قادر على وضع حدّ للحرب في 24 ساعة.
ولم يخف زيلينسكي جَزَعه من سيناريو وصول ترامب مجدّداً إلى البيت الأبيض، لأنّ ذلك يعني ببساطة فرض تسوية ستأتي على حساب أوكرانيا. ولذا، يضغط الرئيس الأوكراني من أجل الحصول على السلاح كي يعيد تحريك الجبهات، وتالياً إقناع المشرّعين الأميركيين بجدوى المضيّ في توفير الدعم لأوكرانيا، ويكرّر مقولة أنّ انتصار روسيا ستجعل بوتين ينتقل لغزو بلد أوروبي آخر.
هذه هي سياقات الأزمة الأوكرانية، التي يجدر الإشارة إلى أنّ انفجار الحرب بين إسرائيل وقطاع غزّة، ترك الكثير من الانعكاسات السلبية على أوكرانيا، وتراجع الاهتمام العالمي الذي تحوّل إلى الشرق الأوسط، المنطقة التي توليها الولايات المتحدة اهتماماً لا يقلّ إطلاقاً عن الاهتمام بالأمن الأوروبي.
هل يستطيع زيلينسكي إقناع الولايات المتحدة وأوروبا بمنحه فرصة أخرى لقلب الميدان؟ وهل تخدم هذا الهدف عمليةُ استهداف سفينة الإنزال الروسية "نوفوتشيرسك" التي كانت شرارة لتصعيد متبادل شمل مدناً أوكرانية وروسية؟