عاجلاً أم آجلاً، كان مطمر "الكوستا برافا" سيلفظ أنفاسه الكريهة الأخيرة، مع أو بدون نفايات الشوف وعاليه. التقليل من الكمّيات التي تتدفّق عليه يوميّاً بمئات الأطنان، قد يطيل عمره لأشهر، لكنّه لن يبعد عنه كأس الفناء المحتوم. ثمة مثيل له لا يبعد مسافة رمية حجر في الناعمة. ظلّ المسؤولون يحشونه، موقّتاً، بـ "أوساخهم" لعقدين من الزمن حتّى "طلعت ريحتهم"، فأقفلوه في العام 2015، وافتتحوا آخريْن مؤقّتين صغيرين عند واجهة لبنان البحرية، وعلى طرفي بيروت الشرقية والغربية. وأخذوا يوسعونهما عمودياً وأفقياً، حتّى كاد الغربي يبتلع المطار الدولي، ويهضم الشرقي مرفأ الصيّادين والمنشآت الحيوية.
على مدخل بيروت الغربية، وفي منطقة باهرة الجمال صُبغت بمعلم بحري اشتق اسمه: Costa Brava، من منطقة سياحية تقع على الساحل الشرقي لشمال إقليم كتلونيا الإسباني، علا المطمر. وبعيداً عن التشويه الجمالي، والمخاطر البيئية والصحّية، وحتى الأمنية المتّصلة بحركة الملاحة الجوية، لم يشكّل المطمر حلّاً لأزمة النّفايات. فهو بدأ بين العامين 2015 و2016 باستقبال نفايات قضاء بعبدا والشويفات، ومن ثمّ أضيف إليه نفايات قضاءي الشوف وعاليه. بدأ المطمر بقدرة استيعابية تبلغ 1000 طناً يومياً، ما لبثت أن رُفعت إلى حدود 1800 طن في العام 2019. الأمر الذي سرّع امتلاء الخلايا، ودفع إلى الطمر في الممرّ الوسطي إفساحاً في المجال لاستمرار العمل للأشهر القليلة المقبلة. وما فاقم المشكلة كان طمر النّفايات من دون فرز ومعالجة، بسبب توقّف معمل العمروسية عن العمل وحاجته للصيانة بمبلغ يقدّر بحوالى 4 ملايين دولار، وعدم إنشاء معمل التسبيخ في الموقع. وهذا ما ضاعف الكمّيات المردومة والتي تتكوّن بغالبيتها العظمى من المواد العضوية التي يمكن تحويلها إلى كومبوست، والحديد والبلاستك والزجاج التي يمكن إعادة تدويرها. وهذا ما لم يحصل، فقرّر اتحاد بلديات الضاحية التوقّف عن استقبال نفايات بعبدا، عاليه والشوف، باستثناء مدينة الشويفات والبلديات التابعة لها، لأنّ ذلك سيؤدّي إلى إقفاله نهائياً بعد نحو أربعة أشهر.
تعطّل الحلول
الأزمة القديمة الجديدة ستأخذ حيزاً واسعاً من النّقاش السياسي والشعبوي والمناطقي... وستُحلّ، كالعادة، في النّهاية، بـ "الترقيع"، من دون البحث بالخيارات البديلة الجدّية والدائمة. فالتوسّع الذي حصل بفرز النفايات ومعالجتها في المناطق والبلديات واتحاداتها، وحتّى في المدن، لم يرقَ إلى مستوى معالجة أزمة وطنية بهذا الحجم"، يقول النّاشط البيئي زاهر رضوان. "ومعامل الفرز التي افتخروا بإنشائها، لا تعدو كونها مشاغل، تعطّلت بشكل شبه كلّي مع بداية الانهيار في العام 2019 بسبب عدم توفّر الكهرباء وارتفاع كلفة تشغيلها وصيانتها، وعجز البلديات عن تأمين التمويل اللازم لإدارتها. هذا فضلاً عن فشل تجربة الفرز من المصدر في مختلف المناطق، وعدم انتظام عمليات شراء المواد التي يمكن تدويرها من قبل المعنيين من جمعيات ومعامل ومنشآت". وأمام هذا الواقع الذي يُنذر بالأسوأ "لم يعد هناك من حلّ لأزمة النفايات المستفحلة في لبنان عموماً، ومنطقة عاليه خصوصاً، إلّا اعتماد تقنية Waste-to-energy (WtE)، أو ما يعني تحويل النفايات إلى كهرباء عبر معامل تتمتّع بتقنيّة عالية جداً"، يضيف رضوان. "ونحن كناشطين وفاعلين في المنطقة تقدّمنا باقتراح متكامل، وأخذنا الإذن من وزارة البيئة لدراسة الأثر البيئي للمشروع، واستعنّا بتجربة شركة نَفذت مشاريع مماثلة في كلّ من روسيا وهولندا. وحدّدنا موقع المشروع في منطقة مطمر الناعمة الذي يتبع 95 في المئة منه لقضاء عاليه. وحصلنا على موافقة البنك الدولي للتمويل بقيمة تصل إلى 250 مليون دولار".
معامل الفرز التي افتخروا بإنشائها، لا تعدو كونها مشاغل، تعطّلت بشكل شبه كلّي مع بداية الانهيار في العام 2019
فكرة المعمل
تُعرف تقنية تحويل النّفايات إلى طاقة أو كهرباء في لبنان باسم المحارق. وعادة ما يكون تحليلها أو تحريمها من قبل المسؤولين وأذرعتهم الإعلانية والإعلامية بناء على Commission نسبة العمولة المدفوعة. وكلّما كبرت هذه الأخيرة أصبحت الفكرة مجدية، وكلّما صغرت أو حتّى تلاشت أصبحت تختصر كلّ الآفات والأوبئة. وهذا هو الواقع الذي يصطدم به إنشاء المعمل في الناعمة"، بحسب رضوان. على الرّغم من أنّ المعمل يخلّص المنطقة من نفاياتها بعد فرزها واستخلاص المواد التي يمكن تدويرها بقدرة استيعابية تراوح بين 500 و1000 طن. فهو يؤمّن بالإضافة إلى محطة الطاقة الموجودة (6 مولّدات أو حرّاقات، معطّلة حالياً) التي تولّد الكهرباء من الغازات الدفينة، ما بين 50 و60 في المئة من حاجة القضاء من الكهرباء بشكل دائم. فيما يحوّل الرّماد الناتج عن الاحتراق إلى مواد بناء صلبة وخصوصاً لجدران الدّعم والطرقات.
المخاوف البيئية
تثير معامل الحرق الكثير من المخاوف البيئية، وكانت مجموعة من النّاشطين البيئيين والجمعيات ومنظمات المجتمع المدني قد تصدّوا للفكرة في العام 2018، مع التلويح باعتماد هذه التقنية في بيروت. وقد اعتبروا أنّ "إقامة محارق نفايات في بلد يزدحم بالسكّان أمر ينطوي على مخاطر صحّية. إضافة إلى مفاقمة تدهور المحيط الطبيعي. فضلاً عن كلفته العالية"، بحسب ما نقلت وكالة فرانس برس من مظاهرة في وسط بيروت. "ويرون أنّ الحلّ الوحيد المستدام يتمثّل في تدوير النفايات". في المقابل فإنّ "تقنية تحويل النّفايات إلى طاقة معتمدة في وسط بلجيكا وهولندا والعديد من عواصم الدول الاوروبية"، يقول رضوان. "أكثر من ذلك ففي هولندا يعاد "نبش" المطامر القديمة من أجل تأمين المواد الأوّلية للمعامل الجديدة التي أثبتت فعاليتها على مختلف المستويات البيئية، وهي موضوعة ضمن المدن من دون تلوّث في الهواء أو رائحة كريهة أو أيّ انعكاسات".
"الترقيع" مستمر
أزمة النّفايات لم تحلّ منذ انتهاء الحرب الأهلية رغم مرورها بثلاث محطات رئيسية:
في التسعينيات مع ولادة سوكلين وفتح مطمر الناعمة، وكانا "الدجاجة التي باضت"، من النّفايات، "ذهباً" للمسؤولين.
وفي العام 2015 مع انتفاضة "طلعت ريحتكن".
وفي العام 2018 مع تفاقم الأزمة نتيجة عدم نجاح الحلول التي اعتمدت.
ومنذ العام 2018 إلى اليوم لم يحلّ "أوسخ" الملفّات العابق بروائح السرقة والسمسرة والفساد والإضرار بالبيئة، رغم إقامة معامل الفرز. وقد فاق عدد المكباّت العشوائية المئة وخمسين مكبّاً وتعمّقت ظاهرة إشعال النفايات في الهواء الطلق. وارتفعت نسب التلوث. ويمكن الاستنتاج بسهولة أنّ أحسن الحلول يفشل في لبنان، وسرعان ما يصبح أكثر تلويثاً بسبب اعتماد الحلول الترقيعية.
بغضّ النظر عن الحلّ الذي سيُعتمد هذه المرّة لحلّ معضلة النفايات لمرّة واحدة ونهائية، فهو لا يمكن أن يمرّ عبر الممرّات الرسمية. فالدولة أثبتت عجزها في إدارة الملف، على غرار أكثرية الملفّات، ليس لكونها تاجراً فاشلاً، إنّما لتفشّي الفساد والزبائنية وعدم تمرير أيّ مشروع من دون سمسرة. وأخطر من هذا كلّه تحويل النفايات إلى وقود لتغذية النّعرات الطائفية والمناطقية. وهو ما يجعل من هذا الملفّ أوسخ الملفّات المحتاجة إلى حلّ نهائي.